نحن المسلمين ....
للعالم الأديب القاضي على الطنطاوي رحمه الله
سلوا عنا ديار الشام ورياضها
والعراق وسوادها
والأندلس وأرباضها
سلو مصر وواديها
سلوا الجزيرة وفيافيها
سلوا الدنيا ومن فيها
سلوا بطاح أفريقية
وربوع العجم
وسفوح القفقاس
سلوا حفافي الكنج
وضفاف اللوار
ووادي الدانوب
سلوا عنا كل أرض في الأرض
وكل حي تحت السماء
إن عندهم جميعا خبرا من بطولاتنا وتضحياتنا ومأثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا
هل روى رياض المجد إلا دماؤنا ؟
هل زانت جنات البطولة إلا أجساد شهدائنا ؟
هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم , أو أراف أو أرحم , أو أجل أو أعظم , أو أرقى أوأعلم ؟
نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل وقلنا لأهلها : هذا الطريق
نحن نصبنا موازين العدل يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان
نحن بنينا للعلم دارا يأوي إليها حين شرده الناس عن داره نحن أعلنا المساواة يوم كان البشر يعبدون ملوكهم ويؤلهون ساداتهم
نحن أحيينا القلوب بالإيمان , والعقول بالعلم , والناس كلهم بالحرية والحضارة
نحن بنينا الكوفة والبصرة والقاهرة وبغداد
نحن أنشأنا حضارة الشام والعراق ومصر والأندلس
نحن شيدنا بيت الحكمة والمدرسة النظامية وجامعة قرطبة والجامع الأزهر
نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة وسرمن رأي والزهراء والحمراء ومسجد السلطان أحمد وتاج محل
نحن علمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ
منا أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين وأورنك زيب
منا خالد وطارق وقتيبة وابن القاسم والملك الظاهر
منا البخاري والطبري وابن تيمية وابن القيم وابن حزم وابن خلدون
منا الغزالي وابن رشد وابن سينا والرازي
منا الخليل والجاحظ وأبو حيان
منا أبو تمام والمتنبي والمعري
منا كل خليفة كان الصورة الحية للمثل البشرية العليا
وكل قائد كان سيفا من سيوف الله مسلولا
وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد
منا مائة ألف عظيم وعظيم
قوتنا بإيماننا , وعزنا بديننا , وثقتنا بربنا
قانوننا قرأننا , وإمامنا نبينا , وأميرنا خادمنا
وضعيفنا المحق قوي فينا , وقوينا عون لضعيفنا
وكلنا أخوان في الله , سواء أمام الدين
ملكنا فعدلنا , وبنينا فأعلينا , وفتحنا فأوغلنا , وكنا الأقوياء المنصفين , سننا في الحرب شرائع الرأفة , وشرعنا في السلم سنن العدل , فكنا خير الحاكمين , وسادة الفاتحين
أقمنا حضارة كانت خيرا كلها وبركات
حضارة روح وجسد
وفضيلة وسعادة
فعم نفعها الناس
وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا . وسقيناها نحن من دمائنا , وشيدناها على أجساد شهدائنا الطاهرة
وهل خلت أرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام , والإيمان والأمان ؟
هل تحققت المثل البشرية العليا إلا فينا ؟
هل عرف الكون مجمعا بشريا إلا مجمعنا قام على الأخلاق والصدق والإيثار ؟
هل اتفق واقع الحياة , وأحلام الفلاسفة وأمال المصلحين , إلا في صدر الإسلام ؟
يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة يشتهي شربة من ماء فإذا أخذ الكأس رأى جريحا أخر فأثره على نفسه ومات عطشا
يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها فإذا أخبرت بهم سألت : مافعل رسول الله ؟ فإذا قيل لها : هو حي , قالت : كل مصيبة بعده هينة .
يوم كانت العجوز ترد على عمر وهو على المنبر في الموقف الرسمي وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم
يوم كان الواحد منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويؤثره عليها ولو كان خصاصة
وكنا أطهارا في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى
وكنا لا نأتي أمرا ولا ندعه ولا نقوم ولا نقعد ولا نذهب ولا نجيئ إلا لله
قد أمتنا الشهوات من نفوسنا فكان هوانا تبعا لما جاء به القرأن
لقد كنا خلاصة البشر وصفوة الإنسانية
وجعلنا حقا واقعا ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملا بعيدا
تنظم في ماخرنا مائة إلياذة وألف شاهنامة
ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى , لأنها لا تعد ولا تحصى
من يعد معاركنا المظفرة التي خضناها ؟
من يحصى مأثرنا في العلم والفن ؟
من يستقري نابغينا وأبطالنا ؟
إلا الذي يعد نجوم السماء
اكتبوا على هامش السيرة ألف كتاب
وعلى هامش التاريخ مثلها
ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء والمنجم البكر
لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة ففي كل أمة خير وشرير
ولسنا شعبا كالشعوب يؤلف بينها الدم ففي كل شعب صالح وطالح , ولكننا جميعة خيرية كبرى أعضاؤها كل فاضل من كل أمة ,تقي نقي
تجمع بيننا التقوى إن فصل الدم , وتوحد بيننا العقيدة إن أختلفت اللغات وتديننا الكعبة إن تناءت بنا الديار
أليس في توجهنا كل يوم خمس مرات إلى هذه الكعبة , واجتماعنا كل عام مرة في عرفات رمزا إلى أن الإسلام قومية جامعة , مركزها الحجاز العربية وإمامها النبي العربي وكتابها القرأن العربي ؟
ديننا الفضيلة الظاهرة , والحق الأبلج
لا حجب ولا أستار ولا خفايا ولا أسرار
هو واضح وضوح المئذنة . أفليس فيها ذلك المعنى ؟
هل في الدنيا جماعة أو نحلة تكرر مبادئها وتذاع عشر مرات كل يوم كما تذاع مبادئ ديننا نحن المسلمين , على ألسنة المؤذنين : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله
لا نهن ولا نحزن ومعنا الله
ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس هذا النشيد القوي : الله أكبر
البطولة سجية فينا , وحب التضحية يجري في عروقنا
لا تنال من ذلك صروف الدهر , ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان
لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها ويعيش أهلها من جحيمها في جنات
لنا الشام وغوطتها التي سيقت بالدم , لنا فيها البل الأشم
لنا العراق , لنا الرميثة وسهول الفرات
لنا فلسطين التي فيها جبل النار
لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام
لنا المغرب كله , لنا الريف دار البطولات والتضحيات
لنا القسطنطينية ذات المأذن والقباب , لنا فارس والأفغان والهند وجاوة
لنا كل أرض يتلى فيها القرأن وتصدح مناراتها بالأذان
لنا المستقبل .... المستقبل لنا إن عدنا إلى ديننا
علي الطنطاوي ...(1909 - 1999)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق