الخميس، 28 أكتوبر 2010

من وحي القلم للرافعي رحمه الله .....5

الأدبُ بينَ الشعبِ والحُكَّامِ , وأدبُ القرأنِ الحَكيم .....

مِنْ الأصولِ الاجتماعيةِ التي لا تتخلف , أنه إذا كانتِ الدولةُ للشعبْ , كان الأدبُ أدبَ الشعبِ في حياتِه وأفكارِه ومطامِحِه وألوانِ عيشِه , وزخرَ الأدبُ بذلك وتنوع وافتن وبنى على الحياة الاجتماعية , فإن كانت الدولةُ لغَيرِ الشعب , كان الأدبُ أدبَ الحاكمين وبُنى على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس , ونصب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة , وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله , إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله , أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه , فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع لا يزال يذهب فيها ويجئ حتى يمل ذهابه ومجيئه .

والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديما وحديثا , أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها , ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم .

فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطًا فيه , ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع , ويعظمه الأداء صورة لعظمة الأخلاق , وبرقة البيان صورة لرقة النفس , وبدفته المتناهية في العمق صورة لدقة النظرة إلى الحياة , ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس , ضابطة لها المقاييس التاريخية , محكمة لها الأوضاع الإنسانية , مشترطة فيها المثل الأعلى , حاملة لها النور الإلهي على الأرض .....

وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاءً ساميًا , ويدفعها إلى المعالي دفعًا , ويردها عن سفاسف الحياة , ويوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة , ويسددها في إغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم , ويملأ سرائرها يقينًا ونفوسها حزمًا وأبصارها نظرًا وعقولها حكمةً , وينفذ بها من من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية .....

إذا أردت على كل هذه الوجوه من الاعتبار وجدت القرآن الحكيم قد وضع الأصل الحي في ذلك كله , وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسًا , وفرض هذا التقديس عقيدةً , واعتبر هذه العقيدة ثابتةً لن تتغير , ومع ذلك كله لم ينتبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه , وحسبوه دينًا فقط , وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق , كأنه منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القاتلة , ذاهب إلى الفناء الحتم .

والقرآنُ بأسلوبُه ومعانيه وأغراضه لا يُستخرج منه للأدب إلا تعريفٌ واحدٌ هو هذا : إنَّ الأدبَ هو السُمو بضميرِ الأمَّة

ولا يُستخرج منه للأديب إلا تعريفٌ واحدٌ هو هذا : إنَّ الأديبّ هو من كان لأمَّتِه وللغَتِها في مواهبِ قلمِه لقبٌ من ألقابِ التاريخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق