البيان عند الرافعي ( بين العلماء والأدباء ) ........
لا وجودَ للمقالةِ البيانيةِ إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدودٍ ويديرها على طريقة , مصيبًا بألفاظهِ مواقعَ الشعور , مثيرًا بها مكامنَ الخيال , آخذًا بوزنٍ لتأخذ النفسُ ( نفس المتلقي ) كما يشاءُ وتترك .
ونقلُ حقائقِ الدنيا نقلاً صحيحًا إلى الكتابةِ أو الشِعرِ , هو انتزاعُها من الحياة في أسلوبٍ وإظهارهُا للحياة في أسلوبٍ أخرَ يكون أوفى وأدق وأجمل , لوضعه كُلَّ شئٍ في خاصِّ معناه وكشفهِ حقائقَ الدنيا كشفةً تحتَ ظاهرِها الملتبس . وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة , تستدركُ النقصَ فتتمه , وتتناول السر فَتُعلِنُه , وتَلمسُ المقيدَ فتطلقه , وتأخذُ المطلقَ فتُحِدُّه , وتكشفُ الجمالَ فتظهرُه , وترفع الحياةَ درجةً في المعنى وتجعلُ الكلامَ كأنَّه وجدَ لنفسِه عقلاً يعيشُ بِه .
فالكاتبُ الحَقُّ لا يكتب ليكتب , ولكِنَه أداةٌ في يدِ القوةِ المُصوِرةِ لهذا الوجود , تُصوِّرُ به شيئاً من أعمالِها فنًا من التصوير . الحكمةُ الغامضةُ تريدُه على التفسير , تفسيرِ الحقيقة , والخطأُ الظاهرُ يريدُه على التبيين , تبيينِ الصواب , والفوضى المائجةُ تسألُه الإقرار , إقرارَ التناسب , وما وراءَ الحياة , يتخِذُ مِنْ فِكرِه صلةً بالحياة , والدنيا كلُها تنتقلُ فيه مرحلةً نفسيةً لتعلوَ به أو تَنْزِل . ومِن ذلك لا يُخلَقُ المُلهَمُ أبدًا إلا وفيه أعصابُه الكهربائية , وله في قلبِه الرقيقِ مواضِعُ مهيأةٌ للاحتراق تنفذُ إليها الأشعةُ الروحانيةُ وتتساقطُ منها بالمعاني .
وإذا اختِير الكاتبُ لرسالةٍ ما ( موضوعِ أوإلهامِ ما أو أيِّ مثيرٍ منَ المثيرات .. كالغضبِ و العشقِ و الجمالِ و الفخرِ و الحماسةِ و الموتِ و الحنين والإيمان .... إلخ ) , شَعُرَ بقوةٍ تفرضُ نفسَها عليه , منها سِنَادُ رأيهِ , ومنها إقامةُ برهانِه , ومنها جمالُ ما يأتي به , فيكونُ إنسانًا لأعمالِه وأعمالِها جميعًا ( يستخدم أسلوبه الخاص مع إيصال تلك الرسالة ) , له بنفسهِ وجودٌ ولِدَ بها ( أي بالرسالة التي اختير لها ) وجودٌ أخر, ومن ثَمَّ يصبحُ عالَمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه (أي كما توجهه تلك الرسالة أو ذلك المثير) , ويلقى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرَى سهلاً كل السهل حين يتمّ , ولكنَّه صعبٌ أي صعبٍ حينَ يبدأ .
هذه القوةُ التي تجعلُ اللفظةَ المفردةَ في ذهنِه معنًى تامًا , وتُحَوِّلُ الجُمْلةُ الصغيرةُ إلى قِصَّة , وتنتهي باللمحة السريعة إلى كَشْفٍ عن حقيقة , وهيَ تُخْرِجُه من حُكمِ أشياءَ ليحكمَ عليها , وتُدْخِلُه في حُكمِ أشياءَ غيرِها لتحكمَ ( هي ) عَليْه , وهي هي التي تُميِّزُ طريقتُه وأسلوبه , وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه .
ولا بُدَّ مِنَ البيانِ في الطبائع المُلهَمة ليتسعَ به التصرُف , إذِ الحقائقُ أسمى وأدقُ من أن تُعرفَ بيقينِ الحاسَّةِ أو تنحصر في إدراكِها . فلو حُدَتِ الحقيقةُ لَمَا بَقِيَت حقيقة , ولو تلبَس الملائكةُ بهذا اللحمِ والدمِ أُبطِلَ أن يكونوا ملائكةً , ومن ثَمَ فكثرةُ الصور البيانيةِ الجميلةِ , للحقيقةِ الجميلة , هي كلُ ما يمكن أو يتسنَّى مِنْ طريقةِ تعريفِها للإنسانية .
وأيُ بيانٍ في خُضْرةِ الربيعِ عندَ الحيوانِ من آكلِ العُشْب , إلا بيان الصورة الواحدة في مِعدَتِه ؟ غيرَ أن صورَ الربيعِ في البيانِ الإنسانيِّ على اختلافِ الأرضِ والأممِ , تكادُ تكونُ بعددِ أزهارِها , ويكادُ النَّدَى يُنضرها حسنا كما يُنضره .
ولهذا ستبقى كل حقيقةٍ من الحقائقِ الكبرى كالإيمان والجمال , والحب , والخير والحق , ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة .
وفي الكتَابِ الفضلاءِ باحثونَ مفكرونَ تأتي ألفاظُهم ومعانيهم فنًا عقليًا غايتُه صحةُ الأداءِ وسلامةُ الَنسق , فيكون البيان في كلامهم على نَدرةٍ كوَخزِ الخُضرةِ في الشجرةِ اليابسةِ هنا وهنا ( أي كندرة اللون الأخضر وتفرقه في الشجرة اليابسة المشرفة على الموت وكأنما وخزت بشوكة بعد أن غمست فيه ) . ولكِنَ الفنَ البيانيَ يرتفعُ على ذلك بأن غايتَه قوةُ الأداءِ معَ الصحة , وسمو التعبيرِ مع الدِقة , وإبداعُ الصورةِ زائدًا جمالَ الصورة . أولئك في الكتابة كالطير له جناحٌ يجري به ويدِفُ ولا يطير ( يقصدُ الكتَابَ الباحثينَ المفكرينَ العلماء ) , وهؤلاء كالطير الآخر له جناحٌ يطيرُ به ويجري ( يقصدُ الأدباءَ أصحابَ البيان ) . ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيتَ المنطقَ في أحدِ الأسلوبين وكأنه يقول : أنا هنا في معانٍ وألفاظٍ ( عند الفريق الأول ), وترى الإلهامَ في الأسلوبِ الآخر يطالعُك أنه هنا في جلالٍ وجمالٍ وفي صورٍ وألوان ( عند الفريق الثاني ) .
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورةُ خلقٍ وتركيب , تخرج بها الألفاظُ أكبرَ مما هي , كأنها شَبَت في نفسه شبابًا , وأقوى مما هي , كأنما كَسَبَتْ من روحه قوة , وأدلَ مما هي , كأنما زاد فيها بصناعته زيادة . فالكاتب العلمي تمر اللغةُ منه في ذاكرةٍ وتخرجُ كما دخلَت - عليها طابعُ واضعيها - , ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنعٍ وتخرج عليها طابعه هو . أولئك أزاحوا اللغةَ عن مرتبةٍ سامية ( العلماء ) , وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها ( الأدباء ) , وأنت مع الأولين بالفكر , ولا شيئ إلا الفكر والنظر والحكم , غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي .
وللكتابة التامة المفيدة مثلُ الوجهينِ في خَلْقِ الناس : ففي كل الوجوه تركيبٌ تامٌ تقومُ به منفعةُ الحياة ( أي ما تقوم به الحياة , كالأنف والأذن والعين والفم .... وإلخ ) , ولكن الوجه المنفرد ( الأوحد المميز) يجمع إلى تمام الخَلق جمالَ الخُلُق , ويزيد على منفعة الحياة لذةَ الحياة , وهو لذلك , وبذلك , يرَى ويؤثِر ويعشق .
وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليلٌ ولكن الخيرَ كذلك , وبأنه مخالفٌ , ولكن الحقَ كذلك , وبأنه محيرٌ , ولكن الحَسَن كذلك , وبأنه كثيرُ التكاليف , ولكن الحريةَ كذلك .
إن لم يكنِ البحرُ فلا تنتظرُ اللؤلؤ , وإن لم يكن النَجمُ فلا تنتظرِ الشعاع , وإن لم تكن شجرةُ الوردِ فلا تنتظرِ الورد , وإن لم يكنِ الكاتبُ البيانيُ فلا تنتظرِ الأَدب .
انتهى بتصرف هين ( فيما بين كل قوسين هو من شرحي لكلامه رحمه الله كما فهمته )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق