الخميس، 28 أكتوبر 2010

من وحي القلم للرافعي رحمه الله .....3

اللغة والدين والعادات باعتبراها من مقومات الاستقلال....2/3


والدينُ هوَ حقيقةُ الخلقِ الاجتماعيِّ في الأمة , وهو الذي يجعلُ القلوبَ كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما , فهو بذلك الضمير القانوني للشعب , وبه لا بغيره ثباتُ الأمة على فضائلِها النفسية , وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب .

ولهذا كان الدينُ من أقوى الوسائلِ التي يُعَوَّلُ عليها في إيقاظِ ضميرِ الأُمَّة , وتنبيهِ روحِها , واهتباجِ خَيالِها , إذ فيه أعظمُ السلطةِ التي لها وحدَها قوةُ الغلبَةِ على المَادِيَّات , فسلطانُ الدينِ هو سلطانُ كلِ فردٍ على ذاتِه وطبيعتِه , ومتى قَوِىَ هذا السلطانُ في شَعبٍ , كانَ حَميًاً أبيَّاً , لا تُرغِمُه قوةٌ , ولا يعنو للقهر (لا ينحني .. أي لا يستسلم للقهر )

ولولا التدينُ بالشريعة , لَمَا استقامتِ الطاعةُ للقانونِ في النفس , ولولا الطاعةُ النَّفسيةُ للقوانين , لَمَا انتظمت أمة , فليسَ عملُ الدينِ إلا تحديدَ مكانِ الحيِّ في فضائلِ الحياة , وتعيينَ تَبِعَتِه في حُقوقِها وواجباتِها , وجَعْلَ ذلكَ كلِه نظامًا مستقِرَّا فيه لا يتغير , ودفْعَ الإنسانِ بهذا النظامِ نحوَ الأكمل , ودائمًا نحوَ الأكمل .

وكلُ أمَّةٍ ضَعُفَ الدينِ فيها اختلت هندستُها الاجتماعيةُ وماجَ بعضُها في بعض , فإنَّ من دقيقِ الحكمةِ في هذا الدين أنه لم يجعل الغايةَ الأخيرةَ من الحياةِ غايةً في هذه الأرض ( أي الغاية المقصودة لذاتها ) , وذلك لتنتظم الغايات الأرضية في الناس فلا يأكل بعضُهم بعضًا , فيغتني الغنيُّ وهو آمن , ويفتقر الفقيرُ وهو قانِع , ويكون ثوابُ الأعلى في أن يعودَ على الأسفلِ بالمَبرَّة ( أي البر ) , وثواب الأسفل في أن يصبرَ على تركِ الأعلى في منزلتِه , ثم ينصرفُ الجميعُ بفضائِلِهم إلى تحقيقِ الغايةِ الإلهيةِ الواحدةِ , التي لا يكبَرُ عليها الكبير , ولا يصغَرُ عنها الصَّغِير , وهي الحق , والصلاح , والخير , والتعاون على البر والتقوى .

وما دام عمل الدين هو تكوين الخُلقِ الثابتِ الدائبِ في عمله , المعتزِ بقوته , المطمئنِ إلى صبرِه , النافرِ من الضعف , الأبيِّ على الذُلِّ , الكافرِ بالاستعباد , المؤمنِ بالموت في المدافعةِ عن حَوزَتِه , المجزيِ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته , العامل في مصلحة الجماعة , المُقيَّد في منافعه بواجباته نحو الناس – ما دام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق – فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشرعية أقوى من الحسِّ بالمادة , وَلَعَمري ما يجد الاستقلال قوةً هي أقوى له وأردُّ عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفوس الأمة وانطبعت عليه .

وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تشرف وتسود وتعتز , يكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل .

وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس , يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له , إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله الثبات على النزعة السياسية , والصلابة في الحق , والإيمان بمجد العمل , وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي لتفتنه عن رأيه ومذهبه : من مال , أو جاه , أو منصب , أو موافقة الهوى , أو خشية النقمة , أو خوف الوعيد , إلى غيرها من كل ما يستميل الباطل أو يرهب به الظلم .

ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي الإيمان الممتلئ ثقة ويقينا ووفاء وصدقا وعزما وإصرارا على فضيلته وثباتا على ما يلقى في سبيلها لا يكون رجلاً كالناس , بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته , وغايته السامية لا تنفصل عنه , هو رجل صدق المبدأ , وصدق الكلمة , وصدق الأمل , وصدق النزعة , وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق