السبت، 30 أكتوبر 2010

من وحي قلم الرافعي رحمه الله ......6

سر النجاح ....


ما خلق اللهُ ذا عقلٍ من بني أدمَ إلا أودعَ في تركيبِه شيئينِ كالمقدمةِ والنتيجة , وأعطاه بهما القدرةَ على الوسيلة والغاية , " ليحيا منْ حيَّ عنْ بينةٍ ويهلكَ منْ هلكَ عنْ بينة " , ففي تركيبِ الإنسانِ قوةُ الرغبةِ في النجاحِ وأن يتأتى إلى سرهِ أو يبلغ منه أويقاربه ( أي النجاح ) , وفي هذا التركيب عينه ما يهتك به هذا الحجاب ويفضي منه إلى هذا السر ويجمع بك عليه , وما أنكر أن النجاح قدرٌ من الأقدار , ولكنَّه قدرٌ ذو رائحةٍ قويةٍ خاصَّةٍ به يستروحها ( أي الإنسان ) مَنْ تحتَ السماء وهو لايزال في السماء ( أي القدر ) وبينه وبين الأرض أمدٌ ودَهرٌ وأسبابٌ وأقدارٌ كثيرة , ولولا أنَّ هذه الخاصية فيه وفي الإنسان منه لما توفرت رغبةٌ في عمل ولا صَحَّ نشاطٌ في الرغبة ولا توجَّه عزمٌ إلى النشاط ولا توثَّقت عقدةٌ على العزم .

غيرَ أنَّ في الإنسانِ كذلك ما يفسدُ هذه الخاصَّية أو يُضعفُها أو يعطلُّها تعطيلاً , فإذا هي تَضلُّ ولا تهدي وكانت تهدي ولا تضِل , وإذا هي زائغةٌ عن الحقِّ ملتويةٌ عن القصد وكانت هي السبيل إلى الحق وهي الدليل على القصد , وما ينال منها شيئ إلا واحد من ثلاث : العجز , وضعف الهمة , واضطراب الرأي .

فأمَّا العجزُ فمنزلةٌ تجعلُ الإنسانَ كالنَّبات يرتفعُ عن الأرضِ بعُودِه ولكنَّه غائرٌ فيها بأصولِ حياتِه

وأمَّا ضعفُ الهِمَّة فمنزلةُ الحيوان الذي لا هَمَّ له إلا أن يوجَد كيفَما وجِد وحيثما جاء موضوعه من الوجود , إذ هو يُولَد ويكدح ويكِدّ ليكونَ لحمًا وعظمًا وصُوفًا وَوَبرًا وشَعرًا وأثاثاً ومتاعا , وكَأنَّه ضَربٌ أخر من النبات إلا أنه نوعٌ أخر من المنفعة .

وأمَّا اضطرابُ الرأي فمنزلةٌ بينَ المنزلتين ترجعُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة وتقع من كلتيهما موقعها , والعجز وضعف الهمة واضطراب الرأي في لغة العقل معان ثلاثة لكلمة واحدة هي الخيبة , وما أسرار النجاح إلا الثلاثة التي تقابلها وهي القوة والعزيمة والثبات .

ولكن في هذا الإنسان طفولةً وشباباً , وهما حالتان لا بد منهما , وهما من الضعف والنزق بطبيعتهما , وفيها يتثاقل الإنسان إلى أغراضِه , ويرتَد عن صعابها , وينخذل دون غاياتها , وليس يأتي للطفل أن يدرك الرجل في معانيه , ولا للشاب أن يبلغ الحكيم في كماله , فكأنَّ هذين ليس لهما أملٌ في أسبابِ النجاح , وكأن كليهما لا يحسن أن يطوى فؤاده على شيئ ولا أن يجمع رأيه على أمر , غير أن من حكمةِ اللهِ ورحمتهِ أنَّه أرصد من نواميسه القوية لضعف الطفولة ونزق الشباب ما هو سناد يمنع , وموئل يعصم , وقوة تصلح , وهو ناموس القدوة الذي يتمثل في الأب والأم والصاحب والعشير والمعلم والكتاب , لأن الله جلت قدرته يبث الحياة كلها إنما هي ممارسة لفضيلة الإيمان به من حيث يدري الإنسان أو لا يدري .



الخميس، 28 أكتوبر 2010

من وحي القلم للرافعي رحمه الله .....5

الأدبُ بينَ الشعبِ والحُكَّامِ , وأدبُ القرأنِ الحَكيم .....

مِنْ الأصولِ الاجتماعيةِ التي لا تتخلف , أنه إذا كانتِ الدولةُ للشعبْ , كان الأدبُ أدبَ الشعبِ في حياتِه وأفكارِه ومطامِحِه وألوانِ عيشِه , وزخرَ الأدبُ بذلك وتنوع وافتن وبنى على الحياة الاجتماعية , فإن كانت الدولةُ لغَيرِ الشعب , كان الأدبُ أدبَ الحاكمين وبُنى على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس , ونصب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة , وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله , إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله , أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه , فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع لا يزال يذهب فيها ويجئ حتى يمل ذهابه ومجيئه .

والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديما وحديثا , أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها , ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم .

فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطًا فيه , ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع , ويعظمه الأداء صورة لعظمة الأخلاق , وبرقة البيان صورة لرقة النفس , وبدفته المتناهية في العمق صورة لدقة النظرة إلى الحياة , ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس , ضابطة لها المقاييس التاريخية , محكمة لها الأوضاع الإنسانية , مشترطة فيها المثل الأعلى , حاملة لها النور الإلهي على الأرض .....

وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاءً ساميًا , ويدفعها إلى المعالي دفعًا , ويردها عن سفاسف الحياة , ويوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة , ويسددها في إغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم , ويملأ سرائرها يقينًا ونفوسها حزمًا وأبصارها نظرًا وعقولها حكمةً , وينفذ بها من من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية .....

إذا أردت على كل هذه الوجوه من الاعتبار وجدت القرآن الحكيم قد وضع الأصل الحي في ذلك كله , وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسًا , وفرض هذا التقديس عقيدةً , واعتبر هذه العقيدة ثابتةً لن تتغير , ومع ذلك كله لم ينتبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه , وحسبوه دينًا فقط , وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق , كأنه منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القاتلة , ذاهب إلى الفناء الحتم .

والقرآنُ بأسلوبُه ومعانيه وأغراضه لا يُستخرج منه للأدب إلا تعريفٌ واحدٌ هو هذا : إنَّ الأدبَ هو السُمو بضميرِ الأمَّة

ولا يُستخرج منه للأديب إلا تعريفٌ واحدٌ هو هذا : إنَّ الأديبّ هو من كان لأمَّتِه وللغَتِها في مواهبِ قلمِه لقبٌ من ألقابِ التاريخ

من وحي القلم للرافعي رحمه الله .....4

للغة والدين والعادات باعتبراها من مقومات الاستقلال....3/3


والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر , وهي وحدة تاريخية في الشعب , تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد , ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس , وفي اشتمالها على التحريم والتحليل , وتكاد عادات الشعب تكون دينا ضيقا خاصا به , يحصره في قبيله ووطنه , ويحقق في أفراده الألفة والتشابك , ويأخذهم جميعا بمذهب واحد , هو إجلال الماضي .

وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله , وفلاسفته , وعلماءه , وأدباءه , وأهل الفن منه , فيوحون إليه وحي عظمائهم التي لم يغلبها الموت , وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه , وحية في آماله وأعصابه .

والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئا نفسيا حقيقيا , حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته , ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة : وليس يعرف هذا إلا من اغترب عن وطنه , وخالط غير قومه , واستوحش من غير عاداته , فهناك يثبت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا .

وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه في الوطني روح التميز عن الأجنبي , وتوحش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر .

ومتى صدقت الوطنية في النفس أقرت كل شئ أجنبي في حقيقته الأجنبية , فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال , وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني .

وباللغة والدين والعادات ينحصر الشعب في ذاته السامية بخصائصها ومقوماتها , فلا يسهل انتزاعه منها ولا انتساقه من تاريخه , وإذا ألجئ إلى حال من القهر لم ينخذل ولم يتضعضع , واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة : إن لم تترك لنفسها , لم تعط من نفسها إلا الوخز .......



من وحي القلم للرافعي رحمه الله .....3

اللغة والدين والعادات باعتبراها من مقومات الاستقلال....2/3


والدينُ هوَ حقيقةُ الخلقِ الاجتماعيِّ في الأمة , وهو الذي يجعلُ القلوبَ كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما , فهو بذلك الضمير القانوني للشعب , وبه لا بغيره ثباتُ الأمة على فضائلِها النفسية , وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب .

ولهذا كان الدينُ من أقوى الوسائلِ التي يُعَوَّلُ عليها في إيقاظِ ضميرِ الأُمَّة , وتنبيهِ روحِها , واهتباجِ خَيالِها , إذ فيه أعظمُ السلطةِ التي لها وحدَها قوةُ الغلبَةِ على المَادِيَّات , فسلطانُ الدينِ هو سلطانُ كلِ فردٍ على ذاتِه وطبيعتِه , ومتى قَوِىَ هذا السلطانُ في شَعبٍ , كانَ حَميًاً أبيَّاً , لا تُرغِمُه قوةٌ , ولا يعنو للقهر (لا ينحني .. أي لا يستسلم للقهر )

ولولا التدينُ بالشريعة , لَمَا استقامتِ الطاعةُ للقانونِ في النفس , ولولا الطاعةُ النَّفسيةُ للقوانين , لَمَا انتظمت أمة , فليسَ عملُ الدينِ إلا تحديدَ مكانِ الحيِّ في فضائلِ الحياة , وتعيينَ تَبِعَتِه في حُقوقِها وواجباتِها , وجَعْلَ ذلكَ كلِه نظامًا مستقِرَّا فيه لا يتغير , ودفْعَ الإنسانِ بهذا النظامِ نحوَ الأكمل , ودائمًا نحوَ الأكمل .

وكلُ أمَّةٍ ضَعُفَ الدينِ فيها اختلت هندستُها الاجتماعيةُ وماجَ بعضُها في بعض , فإنَّ من دقيقِ الحكمةِ في هذا الدين أنه لم يجعل الغايةَ الأخيرةَ من الحياةِ غايةً في هذه الأرض ( أي الغاية المقصودة لذاتها ) , وذلك لتنتظم الغايات الأرضية في الناس فلا يأكل بعضُهم بعضًا , فيغتني الغنيُّ وهو آمن , ويفتقر الفقيرُ وهو قانِع , ويكون ثوابُ الأعلى في أن يعودَ على الأسفلِ بالمَبرَّة ( أي البر ) , وثواب الأسفل في أن يصبرَ على تركِ الأعلى في منزلتِه , ثم ينصرفُ الجميعُ بفضائِلِهم إلى تحقيقِ الغايةِ الإلهيةِ الواحدةِ , التي لا يكبَرُ عليها الكبير , ولا يصغَرُ عنها الصَّغِير , وهي الحق , والصلاح , والخير , والتعاون على البر والتقوى .

وما دام عمل الدين هو تكوين الخُلقِ الثابتِ الدائبِ في عمله , المعتزِ بقوته , المطمئنِ إلى صبرِه , النافرِ من الضعف , الأبيِّ على الذُلِّ , الكافرِ بالاستعباد , المؤمنِ بالموت في المدافعةِ عن حَوزَتِه , المجزيِ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته , العامل في مصلحة الجماعة , المُقيَّد في منافعه بواجباته نحو الناس – ما دام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق – فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشرعية أقوى من الحسِّ بالمادة , وَلَعَمري ما يجد الاستقلال قوةً هي أقوى له وأردُّ عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفوس الأمة وانطبعت عليه .

وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تشرف وتسود وتعتز , يكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل .

وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس , يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له , إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله الثبات على النزعة السياسية , والصلابة في الحق , والإيمان بمجد العمل , وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي لتفتنه عن رأيه ومذهبه : من مال , أو جاه , أو منصب , أو موافقة الهوى , أو خشية النقمة , أو خوف الوعيد , إلى غيرها من كل ما يستميل الباطل أو يرهب به الظلم .

ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي الإيمان الممتلئ ثقة ويقينا ووفاء وصدقا وعزما وإصرارا على فضيلته وثباتا على ما يلقى في سبيلها لا يكون رجلاً كالناس , بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته , وغايته السامية لا تنفصل عنه , هو رجل صدق المبدأ , وصدق الكلمة , وصدق الأمل , وصدق النزعة , وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر .

من وحي القلم للرافعي رحمه الله ......2

اللغة والدين والعادات باعتبراها من مقومات الاستقلال....1/3


ليست حقيقةُ الأُمَّةِ في هذا الظاهر الذي يبدو مِن شَعبٍ مُجتَمِعٍ مَحكومٍ بقوانينِه وأوضاعِه , ولكن تلك الحقيقة هي الكائنُ الروحي المُكتَنُ في الشعبِ ( الساكنُ المتعمِّقُ ) , الخالصُ له مِن طبيعتِه , المَقصورُ عليه في تركيبِه كعصيرِ الشجرةِ : لا يُرَى عَمَلُه والشجرةُ كلُها هي عملُه .

وهذا الكائنُ الروحيُ هو الصورةُ الكُبرى للنَسَب في ذوي الوشيجةِ من الأفراد , بَيْدَ أنَّه يحققُ في الشَّعْبِ قرابةَ الصِّفاتِ بعضِها من بعض , فيجعل للأمة شأن الأسرة , ويخلق في الوطن معنى الدار , ويوجِدُ في الاختلافِ نزعةَ التشابه , ويردُّ المتعددَ إلى طبيعةِ الوَحْدَة , ويُبدِعُ للأمةِ شخصيتَها المتميزة , ويوجِبُ لهذه الشخصيةِ بإزاءِ غَيرِها قانونَ التناصر والحميَّة , إذ يجعلُ الخواطرَ مشتركةً , والدواعي مستويةً , والنوازعَ متآزرةً , فتجتمعُ الأمَّةُ كلُها على الرأي : تتساندُ له بقواها ويشدُّ بعضُها بعضًا فيه , وبهذا كُلِه يكونُ روحُ الأمَّةِ قد وضَعَ في كَلِمةِ الأمةِ معناها .

وَالخلقُ القويُّ الذي ينشئه للأمة كائنُها الروحِي , هو المبادئ المنتزعة من أثرِ الدينِ واللغةِ والعادات , وهو قانونٌ نافذٌ يستمد قوتَه من نفسِه , إذ يعملُ في الحيِّزِ الباطنِ من وراء الشعور , متسلطًا على الفِكر , مُصرِفًا لبواعثِ النَّفس , فهو وحده الذي يملأُ الحيَّ بنَوعِ حَياتِه , وهو طابعُ الزَّمَن على الأمم , وكأنَّه على التحقيقِ وضعُ الأجدادِ علامتَهم الخاصةَ على ذريتِهم .

أمَّا اللغةُ فهي صورةُ وجودِ الأُمَّة بأفكارِها ومعانيها وحقائقِ نفوسِها , وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصِه , فهي قوميةُ الفِكر , تتحدُّ بها الأُمَّةُ في صورِ التفكيرِ وأساليبِ أخذِ المعنى من المادَّة , والدِّقةُ في تركيبِ اللغةِ دليلٌ على دِقَّةِ المَلكاتِ في أهلِها , وعمقُها هو عمقُ الروحِ ودليلُ الحِسِ على مَيلِ الأمةِ إلى التفكيرِ والبحثِ في الأسبابِ والعِلَل , وكثرةُ مشتقاتُها برهانٌ على نزعةِ الحريةِ وطموحِها , فإنَّ روحَ الاستعبادِ ضيقٌ لا يتَّسِع , ودأبُه لزومُ الكلمةِ والكلماتِ القليلة .

وإذا كانَتِ اللغةُ بهذه المَنزِلة , وكانت أمتُها حريصةً عليها , ناهضةً بها , متسعةً فيها , مكبرةً شأنَها , فما يأتي ذلك إلا من روحِ التسلطِ في شعبِها والمطابقةِ بينَ طبيعتِه وعملِ طبيعته , وكونِه سيدَ أمره و ومحققَ وجودِه , ومستعملَ قوتِه , والآخذَ بحقِه , فأمَا إذا كان منه التراخي والإهمالُ وتركُ اللغةِ للطبيعةِ السوقية , وإصغارُ أمرها , وتهوينُ خَطَرِها , وإيثارُ غيرِها بالحبِّ والإكبار , فذا شعبٌ خادمٌ لا مخدوم , تابعٌ لا متبوع , ضعيفٌ عن تكاليف السيادة , لا يطيق أن يحملَ عظمةَ ميراثِه و مجتزئٌ لبعضِ حَقِّه , مكتفٍ بضرورات العيش , يُوضَع لِحُكمه القانونُ الذي أكثرُه للحرمان وأقلُه للفائدة التي هي كالحرمان .

لا جرمَ كانت لغةُ الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين , فلن يتحولَ الشعبُ أولَ ما يتحوَّل إلا من لغته , إذ يكونُ منشأَ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله , وهو إذا انقطع من نسبِ لُغَتِه انقطع من نسب ماضيه , ورجعت قوميته صورةً محفوظةً في التاريخ , لا صورة محققة في وجوده , فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر , حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتُهم فنشأ منهن ( من هذه الألسنة ) ناشئٌ على لغة , ونشأ الثاني على أخرى , والثالث على لغة ثالثة , لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء .

وما ذَلَتْ لغةُ شعبٍ إلا ذَلَ , ولا انحطت إلا كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبار , ومن هذا يفرض الأجنبيُ المُستعمِرُ لغتَه فرضًا على الأمةِ المُستعمَرة , ويركبهم بها , ويشعرهم عظمته فيها , ويستلحقهم من ناحيتها , فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد : أما الأول فحبس لغتهم سجنا مؤبدا , وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتلِ محوًا ونسيانًا , وأمَا الثالثُ فتقييدُ مستقبلهِم في الأغلالِ التي يصنعُها , فأمرُهم من بعدها لأمرِهِ تَبَع .

والذينَ يتعلقونَ باللغاتِ الأجنبيةِ يَنزَعونَ إلى أهلِها بطبيعةِ هذا التعلق , إنْ لمْ تَكنْ عَصَبيتُهم للغتِهم قويةً مُسْتَحْكِمةٌ مِن قِبَل الدينِ أو القومية , فتراهم إذا وَهَنَت فيهم هذه العصبيةُ يخجلون من قوميتهم , ويتبرؤون من سَلَفِهم وينسلخون من تاريخهم , وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم , ولقومهم وأشياء قومييهم , فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه , إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة ( أي لا يتفقان ), وينقادون بالحب لغيره , فيتجاوزونه وهم فيه , ويرثون دماءهم من أهلهم , ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي , ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها , وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها , فيكون شئ الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن , لأن إليه الميل , فضعفت صلته بالنفس , فعادت كل مميزاته فضعفت لا تميزه .

وأعجبُ من هذا في أمرِهم , أنَّ أشياءَ الأجنبِيِّ لا تحملُ معانيها الساحرةَ في نفوسِهم إلا إذا بقيَت حاملةً أسماءَها الأجنبية , فإنْ سُمِّي الأجنبي بلغتهم القوميةِ نقص معناه عِندَهم وتصاغرَ وظهرت فيه ذلة ..... وما ذاك إلا صغر نفوسهم وذلتها , إذ ينتحون لقوميهم فلا يلهمهم الحرفُ من لغتِهم ما يلهمهم الحرفُ الأجنبي .

والشرقُ مبتلى بهذه العِلَّة , ومنها جاءت مشاكلُه أو أكثرُها , وليسَ في العالَمِ أمَّةٌ عزيزةُ الجانبِ تُقدِّم لغةَ غيرِها على لغةِ نفسِها , وبهذا لا يعرفون للأشياءِ الأجنبيةِ مَوضعًا إلا من وراءِ حدودِ الأشياءِ الوطنيَّة , ولو أخذنا – نحن الشرقيين – بهذا , لكان هذا وحدَه علاجًا حاسمًا لأكثرِ مشاكلِنا .

فاللغات تنازعُ القومية , ولهي – والله – احتلالٌ عقلي في الشعوب التي ضَعُفَت عصبيتُها , وإذا هانتِ اللغةُ القوميةُ على أهلها , أثَّرتِ اللغةُ الأجنبيةُ في الخلُق القومي ما يؤثِّر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه .

أمَّا إذا قويتِ العصبيةُ , وعزَّتِ اللغةُ , وثارت لها الحميَّة , فلن تكونَ اللغاتُ الأجنبيةُ إلا خادمةً يُرتَفَقُ بها ( تأتي في المقام الثاني ) , ويرجِع شِبرُ الأجنبيِّ شبرًا لا مِترًا ..... وتكونُ تلكَ العصبيَّةُ للغةِ القوميَّةِ مادةً وعَونًا لكلِ ما هو قومي , فيُصبِحُ كل شئٍ أجنبي قد خضعَ لقوةٍ قاهرةٍ غالبة , هي قوةُ الإيمانِ بالمجدِ الوطنيّ واستقلالِ الوطن , ومتى تعيَّنَ الأولُ أنَّه الأول , فكلُ قُوي الوجودِ لا تجعلُ الذي بعدَه شيئًا إلا أنَّه الثاني .

من وحي القلم للرافعي رحمه الله ....1

البيان عند الرافعي ( بين العلماء والأدباء ) ........

لا وجودَ للمقالةِ البيانيةِ إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدودٍ ويديرها على طريقة , مصيبًا بألفاظهِ مواقعَ الشعور , مثيرًا بها مكامنَ الخيال , آخذًا بوزنٍ لتأخذ النفسُ ( نفس المتلقي ) كما يشاءُ وتترك .

ونقلُ حقائقِ الدنيا نقلاً صحيحًا إلى الكتابةِ أو الشِعرِ , هو انتزاعُها من الحياة في أسلوبٍ وإظهارهُا للحياة في أسلوبٍ أخرَ يكون أوفى وأدق وأجمل , لوضعه كُلَّ شئٍ في خاصِّ معناه وكشفهِ حقائقَ الدنيا كشفةً تحتَ ظاهرِها الملتبس . وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة , تستدركُ النقصَ فتتمه , وتتناول السر فَتُعلِنُه , وتَلمسُ المقيدَ فتطلقه , وتأخذُ المطلقَ فتُحِدُّه , وتكشفُ الجمالَ فتظهرُه , وترفع الحياةَ درجةً في المعنى وتجعلُ الكلامَ كأنَّه وجدَ لنفسِه عقلاً يعيشُ بِه .

فالكاتبُ الحَقُّ لا يكتب ليكتب , ولكِنَه أداةٌ في يدِ القوةِ المُصوِرةِ لهذا الوجود , تُصوِّرُ به شيئاً من أعمالِها فنًا من التصوير . الحكمةُ الغامضةُ تريدُه على التفسير , تفسيرِ الحقيقة , والخطأُ الظاهرُ يريدُه على التبيين , تبيينِ الصواب , والفوضى المائجةُ تسألُه الإقرار , إقرارَ التناسب , وما وراءَ الحياة , يتخِذُ مِنْ فِكرِه صلةً بالحياة , والدنيا كلُها تنتقلُ فيه مرحلةً نفسيةً لتعلوَ به أو تَنْزِل . ومِن ذلك لا يُخلَقُ المُلهَمُ أبدًا إلا وفيه أعصابُه الكهربائية , وله في قلبِه الرقيقِ مواضِعُ مهيأةٌ للاحتراق تنفذُ إليها الأشعةُ الروحانيةُ وتتساقطُ منها بالمعاني .

وإذا اختِير الكاتبُ لرسالةٍ ما ( موضوعِ أوإلهامِ ما أو أيِّ مثيرٍ منَ المثيرات .. كالغضبِ و العشقِ و الجمالِ و الفخرِ و الحماسةِ و الموتِ و الحنين والإيمان .... إلخ ) , شَعُرَ بقوةٍ تفرضُ نفسَها عليه , منها سِنَادُ رأيهِ , ومنها إقامةُ برهانِه , ومنها جمالُ ما يأتي به , فيكونُ إنسانًا لأعمالِه وأعمالِها جميعًا ( يستخدم أسلوبه الخاص مع إيصال تلك الرسالة ) , له بنفسهِ وجودٌ ولِدَ بها ( أي بالرسالة التي اختير لها ) وجودٌ أخر, ومن ثَمَّ يصبحُ عالَمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه (أي كما توجهه تلك الرسالة أو ذلك المثير) , ويلقى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرَى سهلاً كل السهل حين يتمّ , ولكنَّه صعبٌ أي صعبٍ حينَ يبدأ .

هذه القوةُ التي تجعلُ اللفظةَ المفردةَ في ذهنِه معنًى تامًا , وتُحَوِّلُ الجُمْلةُ الصغيرةُ إلى قِصَّة , وتنتهي باللمحة السريعة إلى كَشْفٍ عن حقيقة , وهيَ تُخْرِجُه من حُكمِ أشياءَ ليحكمَ عليها , وتُدْخِلُه في حُكمِ أشياءَ غيرِها لتحكمَ ( هي ) عَليْه , وهي هي التي تُميِّزُ طريقتُه وأسلوبه , وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه .

ولا بُدَّ مِنَ البيانِ في الطبائع المُلهَمة ليتسعَ به التصرُف , إذِ الحقائقُ أسمى وأدقُ من أن تُعرفَ بيقينِ الحاسَّةِ أو تنحصر في إدراكِها . فلو حُدَتِ الحقيقةُ لَمَا بَقِيَت حقيقة , ولو تلبَس الملائكةُ بهذا اللحمِ والدمِ أُبطِلَ أن يكونوا ملائكةً , ومن ثَمَ فكثرةُ الصور البيانيةِ الجميلةِ , للحقيقةِ الجميلة , هي كلُ ما يمكن أو يتسنَّى مِنْ طريقةِ تعريفِها للإنسانية .

وأيُ بيانٍ في خُضْرةِ الربيعِ عندَ الحيوانِ من آكلِ العُشْب , إلا بيان الصورة الواحدة في مِعدَتِه ؟ غيرَ أن صورَ الربيعِ في البيانِ الإنسانيِّ على اختلافِ الأرضِ والأممِ , تكادُ تكونُ بعددِ أزهارِها , ويكادُ النَّدَى يُنضرها حسنا كما يُنضره .

ولهذا ستبقى كل حقيقةٍ من الحقائقِ الكبرى كالإيمان والجمال , والحب , والخير والحق , ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة .

وفي الكتَابِ الفضلاءِ باحثونَ مفكرونَ تأتي ألفاظُهم ومعانيهم فنًا عقليًا غايتُه صحةُ الأداءِ وسلامةُ الَنسق , فيكون البيان في كلامهم على نَدرةٍ كوَخزِ الخُضرةِ في الشجرةِ اليابسةِ هنا وهنا ( أي كندرة اللون الأخضر وتفرقه في الشجرة اليابسة المشرفة على الموت وكأنما وخزت بشوكة بعد أن غمست فيه ) . ولكِنَ الفنَ البيانيَ يرتفعُ على ذلك بأن غايتَه قوةُ الأداءِ معَ الصحة , وسمو التعبيرِ مع الدِقة , وإبداعُ الصورةِ زائدًا جمالَ الصورة . أولئك في الكتابة كالطير له جناحٌ يجري به ويدِفُ ولا يطير ( يقصدُ الكتَابَ الباحثينَ المفكرينَ العلماء ) , وهؤلاء كالطير الآخر له جناحٌ يطيرُ به ويجري ( يقصدُ الأدباءَ أصحابَ البيان ) . ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيتَ المنطقَ في أحدِ الأسلوبين وكأنه يقول : أنا هنا في معانٍ وألفاظٍ ( عند الفريق الأول ), وترى الإلهامَ في الأسلوبِ الآخر يطالعُك أنه هنا في جلالٍ وجمالٍ وفي صورٍ وألوان ( عند الفريق الثاني ) .

ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورةُ خلقٍ وتركيب , تخرج بها الألفاظُ أكبرَ مما هي , كأنها شَبَت في نفسه شبابًا , وأقوى مما هي , كأنما كَسَبَتْ من روحه قوة , وأدلَ مما هي , كأنما زاد فيها بصناعته زيادة . فالكاتب العلمي تمر اللغةُ منه في ذاكرةٍ وتخرجُ كما دخلَت - عليها طابعُ واضعيها - , ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنعٍ وتخرج عليها طابعه هو . أولئك أزاحوا اللغةَ عن مرتبةٍ سامية ( العلماء ) , وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها ( الأدباء ) , وأنت مع الأولين بالفكر , ولا شيئ إلا الفكر والنظر والحكم , غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي .



وللكتابة التامة المفيدة مثلُ الوجهينِ في خَلْقِ الناس : ففي كل الوجوه تركيبٌ تامٌ تقومُ به منفعةُ الحياة ( أي ما تقوم به الحياة , كالأنف والأذن والعين والفم .... وإلخ ) , ولكن الوجه المنفرد ( الأوحد المميز) يجمع إلى تمام الخَلق جمالَ الخُلُق , ويزيد على منفعة الحياة لذةَ الحياة , وهو لذلك , وبذلك , يرَى ويؤثِر ويعشق .

وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليلٌ ولكن الخيرَ كذلك , وبأنه مخالفٌ , ولكن الحقَ  كذلك , وبأنه محيرٌ , ولكن الحَسَن كذلك , وبأنه كثيرُ التكاليف , ولكن الحريةَ كذلك .

إن لم يكنِ البحرُ فلا تنتظرُ اللؤلؤ , وإن لم يكن النَجمُ فلا تنتظرِ الشعاع , وإن لم تكن شجرةُ الوردِ فلا تنتظرِ الورد , وإن لم يكنِ الكاتبُ البيانيُ فلا تنتظرِ الأَدب .

انتهى بتصرف هين ( فيما بين كل قوسين هو من شرحي لكلامه رحمه الله كما فهمته )



السبت، 23 أكتوبر 2010

ابتهالات في محراب الحب للرافعي رحمه الله ........

من روائع ما قاله الرافعي ......


الحب قدرة إنسان على قلب إنسان , فهو من ثم قدرة الكون على التنصل بالعاشق وهو بهذه القدرة أشبه بألوهية لو ساغ في الظن أن توجد ألوهية عاجزة عن كل شيئ إلا عن التصرف في مخلوق واحد وهو بكل ذلك إما حقيقة كبرى أو سخرية كبرى ..

يا من غرسني في الحياة كغرس الشجر بين الماء والنور ولكنه جعل جذوري كلها مستقرة مثله في الطين ...

يا من لا يؤتيني معنى شريفا ساميا على هذه الأرض إلا إذا عرفت بإزالة معنى وضيعا سافلا , ولا ينضج ثماري ويحليها إلا بعد أن تنبت فجة مرة لا تذاق ...

يا من خلقني إنسانا ولكنه قضى علي أن أقطع الحياة كلها أتعلم كيف أكون إنسانا , كالبذرة : تقضي عمرها في إخراج شجرتها ونموها حتى إذا كملت الشجرة قطعت لأغراض أخرى غير التي من أجلها نبتت ....

يا من وهب عباده بين هذه النواميس التي لا تعقل حتى لا يتم أبدا عقل إنسان ولا تكمل أبدا حكمة حكيم فيظل باب الخطأ مفتوحا لأكبر العقول واصغرها , وتكون الحيرة قاعدة من قواعد العقل , ليخرج من ذلك أن يكون التسليم قاعدة من قواعد القلب ....

يا من جعل من شفائنا بالعلم داء أخر من العلم حتى لا يرتفع المضر من الأرض ولو صار أهل الأرض كلهم علماء ...

يا من جعل الناس في الحياة كأوراق الشجر , من اليابسة التي تتقصف إلى جانب الخضراء التي ترف , ثم إذا الناس جميعا كالأوراق جميعا , يبست فتفتت فطارت بها الريح تذروها فلا يعلم مستقرها ومستودعها إلا هو ....

ويا من خصني بهذا القلب العاشق الذي يتألم ويضطرب حتى عندما ألمس كتابا أعرف أن فيه قصة حب وهو مع ذلك يتكبر على كل آلامه ولا يخضع أبدا إلا جوابا على خضوع آخر فكأنه لا يدنيني ممن أحبهم إلا لأعرف ما أكرهه فيهم , وهو من فرط رقته آلة إحساس جامدة لا قلب حي ....

ويا من جعل هذا القلب في كجناح الطائر لا يطير ولا يرتفع ولا يسمو ولا يتقاذف إلا إذا نشر هو جناحه الآخر فلا أبحث عن الحب لأجد الحبيبة وجمالها وحبها , بل قوتي وسموي وكبريائي .

يا إلهي : تقدست وتباركت , إني لا أنكر حكمة آلامي فما أنا إلا كالنجم : إن يسخط فليسخط ما شاء إلى ظلمة ليله ( حتى غروب الشمس ونزول الليل ) التي تشب لونه وتجلوه ولولاها لما رأت العين شعاعه يلمع .....

لم تعطني يا رب ما أشتهي كما أشتهيه ولا بمقدار مني , وجعلت حظي من آمالي الواسعة كالمصباح في مطلعه من النجوم التي لا عدد لها ولكن سبحانك اللهم لك الحمد بقدر ما لم تعط وما أعطيت , لك الحمد أن هديتني إلى الحكمة وجعلتنى أرى أن نور المصباح الضئيل الذي يضيئ جوانب بيتي هو أكثر نورا في داخل البيت من كل النجوم التي ترى على السطح وإن ملأت الفضاء ....

سبحانك , إن الساخط على الحياة والحياة منك , ليس إلا كورقة في شجرة قد بدا لها فسخطت شجرتها وعملها ونظامها ولونها وانتزعت نفسها وهوت في التراب لتخلق أوهامها وتخرج من نفسها على ما تحب شجرة جمال ولون وثمر فإذا هي أهون على الأرض والسماء من أن تكون إلا ورقة يابسة قد هلكت حمقا وتفتت رغما وهوانا وضاعت فيما يضيع .

سبحانك .....سبحانك

اللهم لا تجعل ما يرفعني يقذفني

ولا ما يمسكني يرميني

ولا ما نضرني يجفو بي




زفرات من صدر الرافعي رحمه الله ......


عن فلسفة الحب وحال المحبين


تقول العرب : امرأة مجلوة , ويفسرون ذلك بأنك إذا رامقت فيها الطرف جال , يعنون : أنها من جمالها ذات شعاع , فيجول الطرف فيها لأجل شعاعها وبريقها .

أفلا يجوز لنا أن نزيد في هذه اللغة : وامرأة صدئة , ونفسرها بأنها هي التي إذا اتصلت بها تركت مادة الصدأ على روحك اللامعة , لأنها كهذا الصدأ طينت على طينتها (أي جبلت على هذا الطبع(

أف للشعر .... يعلو بالأشياء كلها علو الأسرار الإلهية التي فيها , ويعلو بالشاعر على كل الناس , إذ كان فيه من روح الله أكثر مما فيهم , ثم لا يكون عقابه على هذا التأله إلا أن يرمي بصاحبه من فوق سماواته تحت قدمي امرأة إن كان في الشاعر روح رجل تام , أو بين سفلة الخلق وسفاسف الأشياء , إن كان الشاعر مؤنث النفس أو ساقطها .

إن الله لا ينعم قلبا في الدنيا على أسلوب النعيم في الآخرة , ولكنه ترك للناس أن يعذبوا أنفسهم هنا على نحو مما هنالك ( أي في الآخرة  ), فكلما طفئت لهم نارا أوقدوا غيرها يحترقون فيها ليذوقوا العذاب لا ليموتوا.

الإنسان من الهم في عمر دهر لا يموت , ومن السرور في عمر لحظة تشب وتهرم وتموت في ساعات والحي كأنه من هذه الدنيا فرخ في بيضة ملئت له وختمت عليه فلن يزيد فيها غير خالقها , وخالقها لن يزيد فيها ( قدرا ...وهو إن شاء زاد فيها عز وجل(

من الصحة والمرض مما سر وساء , وما شد وهد , ومن العقل العجيب الذي يحكم من الإنسان تركيبا عصبيا مجنونا ثائرا قد استبانت فيه الحيوانية من كل ذلك وما إليه مزيج هو بقدرة الله أشبه , ولكنه فوق ضعفنا وحيلتنا , فلن نرى منه في الكون إلا شكل الحيرة ومعناها , والفوح بالغفلة عنها والسرور بإنكارها أو المكابرة فيها , والحيرة لا نفى ولا إثبات , ومتى يطلب الإنسان الحقيقة وهو جزء منها لا يقف إلا على جزء منها , فالمشكلة متحركة إلى كل جهة حق لا تذهب عنها لتنساها إلا وأنت ذاهب بها لكيلا تنساها .

السماء سماوات , والأرض أرضون , والأكوان عداد العقول , وكل أمل في رأس مخلوق يزيد عنده الدنيا أو ينقصها ويغير من الخليقة ويبدل , وكل إنسان في كل يوم هو إنسان يومه ذلك , فكأن كل حي من كل حي غلطة . وآمالنا كأرقام الساعة : هي اثنا عشر رقما محدودا , ولكنها في كل دقيقة هي اثنا عشر رقما فلن تنتهي .

والحياة خداع وغرور , وزيغ وخطأ , وعمل وعبث , ولهو ولعب , ومهزلة وسخرية , والناس كالأرقام تخط على هذا التراب ثم يقال للعاصفة : اجمعي واطرحي وحلي المسألة .....

وأين كل ما صبته الشمس والكواكب من نيرانها , وما أخرجته فصول الأرض من وشيها وألوانها , وما هتفت به الطير من أغاريدها وألحانها , وما تلاطمت به الدنيا من أمواج إنسانها ؟ وأين ما صح وما فسد , وما صدق أو كذب , وما ضر أو نفع , وما علا أو نزل ؟ في كل لحظة تمتلئ هذه الدنيا لتفرغ , ثم تفرغ لتمتلئ , وماضيها ومستقبلها مطرقتان يمر بينهما كل موجود لتحطيمه .

وكأن الحياة ليست أكثر من تجربة الحياة زمنا يقصر أو يطول , وما العجيب أن لا تفلح التجربة في أحد , ولكن العجيب أن لا تنقطع وهي لا تفلح .

والعالم كالبحر من السراب يموج به أديم الأرض بما رحبت ثم لا تملأ أمواجه ملعقة , والحقيقة في كل شيئ لا تزال تفر من تحليل إلى تركيب ومن تركيب إلى تحليل . لأن شعور أهل الزمن بالزمن لا يحتمل المعنى الخالد .

ولعل سبب الموت أنك لا تجد إنسانا يعيش في حقيقته الإنسانية . فلا هذه الحقيقة يسرت له كاملة ولا هو خلق لها كاملا . وفي الإنسان كالطبيعة أرض وسماء ......

فتراه لا يتغشاه مما فوقه غير الظل وقد خلق مقسوما , فشقة ( قسم ) منه في أرضه وشقة في سمائه , فإذا حضره الموت ضرب الضربة بين هاتين فأخذت السماء السماء وجذبت الأرض الأرض .

البرق الإلهي ملئ الكون , يلتمع ويخطف , ولكنه من الإنسان كشعلة تتوهج في غرفة أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا هذا الضوء ورجل أعمى .

فلا سخرية ولا ضلالة ولا عبث ولا خداع إلا في أسلوبنا الإنساني المبنى على حواسنا .....


نبضات من قلب الرافعي رحمه الله ......2



أه من الدنيا ومن قدر على الدنيا حكم

البغض شيئ مؤلم والحب شيئ كالألم

إن ساعة من ساعات هذا الضعف الإنساني الذي نسميه ( الحب ) تنشيئ تاريخا طويلا من العذاب إن لم تكن ألامه هي لذاته بعينها فهي أسباب لذاته , ومن ثم يشتبه الأمر على المحبين إذا استفزتهم فورة الغضب ممن أحبوا , فلا تجد في البغضاء عندهم أبغض من طريقة إظهارها حتى إن نيران قلوبهم لتخلق منها الشياطين .

ألا كم في هذا الحب من العجائب المتناقضة حتى إن فضيلة الصبر في العاشق هي نفسها رذيلة الضعف فيه , كلما طال صبره طال غضبه , وتراه يبغض بأقوى ما في نفسه فلا يكون ذلك إلا إخفاء لأضعف ما في قلبه , وإذا ترامى في أطراف الأرض لينأى عن حبيبه رأيته من أي عطفيه التفت , لا يجد إلا خيال حبيبه , ومهما انطرح قلبه في مطارح السلوان فلن يكون إلا كعقرب الساعة تعمل كل قواها في إبعاده عن ( الثانية عشرة ) ليرجع دائما بنفس هذه القوى إلى ( الثانية عشرة ) نفسها .

العاشق هو وحده المخلوق الغريب الذي ترى الأحلام في عينيه وهو يقظان يعقل ويعي . فليست الحبيبة في عينه امرأة كغيرها من الناس , وإنما تخرجها ( يقصد عينه ) له جملة من الصفات الغريبة التي فيها لتقابل جملة أخرى من الصفات الغريبة التي فيه , ومتى كان الأمر غريبا نادرا من طرفيه في النظر والاعتقاد لم يبق فيه موضع يمكن الحكم عليه بأنه من الأشياء المألوفة التي جرت بها العادة . وتلك هي معضلة الحب التي جعلت من بعض النساء الضعيفات هزلا أروع من الجد ومن بعض الرجال الأقوياء جدا أسخف من الهزل . معضلة لا تحل أبدا ما مادامت بين الحبيب ومحبه إذ لا تجئ ولا تكون ولا تستمر إلا كما تجيئ وتكون وتستمر , وإنما مثلها كذلك الإنعكاس الذي لا يستوي له بحال من الأحوال أن يظهر الكتابة على المرآة إلا مقلوبة أبدا .

كل معنى انساني في الحبيب يكون دائما وراءه معنى غير انساني في وهم المحب , فالمعشوق مجتمع من إنسانيتين متباينتين وهذا هو كل السر في انفراده عند من يهواه ما دام يهواه .

ليس ببعيد أن تكون هذه القلوب الإنسانية ينظر بعضها في بعض أحيانا على شعاع الروح كما يتراءى الوجه للوجه في سراج العين , ومن ثم يكون اختلاف كل عاشق مع الناس أجمعين في تقدير الجمال الذي يعشقه واعتباره إذ لا يقدر بعينه ولا بعقله ولكن بقلبه .

من الحب رحمة مهداة , فإذا كنت مع الله كانت كل أفكارك صورا روحانية , فأنت كالملك : هو في الأرض ما هو في السماء .

ومن الحب نقمة مسلطة , فإذا كنت مع الشياطين كانت كل أفكارك صورا حيوانية , فأنت كهذا المتجهم الطياش (القبيح الوجه ) الذي لو نظر في كل مرائي الدنيا ( جمع مرآة ) ما رأى في جميعها غير وجه القرد , لأنه القرد ....

والناس في هذا الحب أصناف :

فواحد يجاهد زلات قد وقعت , وهو المحب الآثم
وأخر يجاهد شهوات تهم أن تقع , وهو المحب الممتحن
وثالث أمن هذه وهذه وإنما يجاهد خطرات الفكر , وهو المحب ليحب فقط
ورابع كالقرابة والصديق

عجز الناس أن يجدوا في لغاتهم لفظا يلبس هذه العاطفة فيهم فألحقوها بأدنى الأشياء إليها في هذا المعنى , وهو الحب .