اللغة والدين والعادات باعتبراها من مقومات الاستقلال....1/3
ليست حقيقةُ الأُمَّةِ في هذا الظاهر الذي يبدو مِن شَعبٍ مُجتَمِعٍ مَحكومٍ بقوانينِه وأوضاعِه , ولكن تلك الحقيقة هي الكائنُ الروحي المُكتَنُ في الشعبِ ( الساكنُ المتعمِّقُ ) , الخالصُ له مِن طبيعتِه , المَقصورُ عليه في تركيبِه كعصيرِ الشجرةِ : لا يُرَى عَمَلُه والشجرةُ كلُها هي عملُه .
وهذا الكائنُ الروحيُ هو الصورةُ الكُبرى للنَسَب في ذوي الوشيجةِ من الأفراد , بَيْدَ أنَّه يحققُ في الشَّعْبِ قرابةَ الصِّفاتِ بعضِها من بعض , فيجعل للأمة شأن الأسرة , ويخلق في الوطن معنى الدار , ويوجِدُ في الاختلافِ نزعةَ التشابه , ويردُّ المتعددَ إلى طبيعةِ الوَحْدَة , ويُبدِعُ للأمةِ شخصيتَها المتميزة , ويوجِبُ لهذه الشخصيةِ بإزاءِ غَيرِها قانونَ التناصر والحميَّة , إذ يجعلُ الخواطرَ مشتركةً , والدواعي مستويةً , والنوازعَ متآزرةً , فتجتمعُ الأمَّةُ كلُها على الرأي : تتساندُ له بقواها ويشدُّ بعضُها بعضًا فيه , وبهذا كُلِه يكونُ روحُ الأمَّةِ قد وضَعَ في كَلِمةِ الأمةِ معناها .
وَالخلقُ القويُّ الذي ينشئه للأمة كائنُها الروحِي , هو المبادئ المنتزعة من أثرِ الدينِ واللغةِ والعادات , وهو قانونٌ نافذٌ يستمد قوتَه من نفسِه , إذ يعملُ في الحيِّزِ الباطنِ من وراء الشعور , متسلطًا على الفِكر , مُصرِفًا لبواعثِ النَّفس , فهو وحده الذي يملأُ الحيَّ بنَوعِ حَياتِه , وهو طابعُ الزَّمَن على الأمم , وكأنَّه على التحقيقِ وضعُ الأجدادِ علامتَهم الخاصةَ على ذريتِهم .
أمَّا اللغةُ فهي صورةُ وجودِ الأُمَّة بأفكارِها ومعانيها وحقائقِ نفوسِها , وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصِه , فهي قوميةُ الفِكر , تتحدُّ بها الأُمَّةُ في صورِ التفكيرِ وأساليبِ أخذِ المعنى من المادَّة , والدِّقةُ في تركيبِ اللغةِ دليلٌ على دِقَّةِ المَلكاتِ في أهلِها , وعمقُها هو عمقُ الروحِ ودليلُ الحِسِ على مَيلِ الأمةِ إلى التفكيرِ والبحثِ في الأسبابِ والعِلَل , وكثرةُ مشتقاتُها برهانٌ على نزعةِ الحريةِ وطموحِها , فإنَّ روحَ الاستعبادِ ضيقٌ لا يتَّسِع , ودأبُه لزومُ الكلمةِ والكلماتِ القليلة .
وإذا كانَتِ اللغةُ بهذه المَنزِلة , وكانت أمتُها حريصةً عليها , ناهضةً بها , متسعةً فيها , مكبرةً شأنَها , فما يأتي ذلك إلا من روحِ التسلطِ في شعبِها والمطابقةِ بينَ طبيعتِه وعملِ طبيعته , وكونِه سيدَ أمره و ومحققَ وجودِه , ومستعملَ قوتِه , والآخذَ بحقِه , فأمَا إذا كان منه التراخي والإهمالُ وتركُ اللغةِ للطبيعةِ السوقية , وإصغارُ أمرها , وتهوينُ خَطَرِها , وإيثارُ غيرِها بالحبِّ والإكبار , فذا شعبٌ خادمٌ لا مخدوم , تابعٌ لا متبوع , ضعيفٌ عن تكاليف السيادة , لا يطيق أن يحملَ عظمةَ ميراثِه و مجتزئٌ لبعضِ حَقِّه , مكتفٍ بضرورات العيش , يُوضَع لِحُكمه القانونُ الذي أكثرُه للحرمان وأقلُه للفائدة التي هي كالحرمان .
لا جرمَ كانت لغةُ الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين , فلن يتحولَ الشعبُ أولَ ما يتحوَّل إلا من لغته , إذ يكونُ منشأَ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله , وهو إذا انقطع من نسبِ لُغَتِه انقطع من نسب ماضيه , ورجعت قوميته صورةً محفوظةً في التاريخ , لا صورة محققة في وجوده , فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر , حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتُهم فنشأ منهن ( من هذه الألسنة ) ناشئٌ على لغة , ونشأ الثاني على أخرى , والثالث على لغة ثالثة , لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء .
وما ذَلَتْ لغةُ شعبٍ إلا ذَلَ , ولا انحطت إلا كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبار , ومن هذا يفرض الأجنبيُ المُستعمِرُ لغتَه فرضًا على الأمةِ المُستعمَرة , ويركبهم بها , ويشعرهم عظمته فيها , ويستلحقهم من ناحيتها , فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد : أما الأول فحبس لغتهم سجنا مؤبدا , وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتلِ محوًا ونسيانًا , وأمَا الثالثُ فتقييدُ مستقبلهِم في الأغلالِ التي يصنعُها , فأمرُهم من بعدها لأمرِهِ تَبَع .
والذينَ يتعلقونَ باللغاتِ الأجنبيةِ يَنزَعونَ إلى أهلِها بطبيعةِ هذا التعلق , إنْ لمْ تَكنْ عَصَبيتُهم للغتِهم قويةً مُسْتَحْكِمةٌ مِن قِبَل الدينِ أو القومية , فتراهم إذا وَهَنَت فيهم هذه العصبيةُ يخجلون من قوميتهم , ويتبرؤون من سَلَفِهم وينسلخون من تاريخهم , وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم , ولقومهم وأشياء قومييهم , فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه , إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة ( أي لا يتفقان ), وينقادون بالحب لغيره , فيتجاوزونه وهم فيه , ويرثون دماءهم من أهلهم , ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي , ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها , وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها , فيكون شئ الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن , لأن إليه الميل , فضعفت صلته بالنفس , فعادت كل مميزاته فضعفت لا تميزه .
وأعجبُ من هذا في أمرِهم , أنَّ أشياءَ الأجنبِيِّ لا تحملُ معانيها الساحرةَ في نفوسِهم إلا إذا بقيَت حاملةً أسماءَها الأجنبية , فإنْ سُمِّي الأجنبي بلغتهم القوميةِ نقص معناه عِندَهم وتصاغرَ وظهرت فيه ذلة ..... وما ذاك إلا صغر نفوسهم وذلتها , إذ ينتحون لقوميهم فلا يلهمهم الحرفُ من لغتِهم ما يلهمهم الحرفُ الأجنبي .
والشرقُ مبتلى بهذه العِلَّة , ومنها جاءت مشاكلُه أو أكثرُها , وليسَ في العالَمِ أمَّةٌ عزيزةُ الجانبِ تُقدِّم لغةَ غيرِها على لغةِ نفسِها , وبهذا لا يعرفون للأشياءِ الأجنبيةِ مَوضعًا إلا من وراءِ حدودِ الأشياءِ الوطنيَّة , ولو أخذنا – نحن الشرقيين – بهذا , لكان هذا وحدَه علاجًا حاسمًا لأكثرِ مشاكلِنا .
فاللغات تنازعُ القومية , ولهي – والله – احتلالٌ عقلي في الشعوب التي ضَعُفَت عصبيتُها , وإذا هانتِ اللغةُ القوميةُ على أهلها , أثَّرتِ اللغةُ الأجنبيةُ في الخلُق القومي ما يؤثِّر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه .
أمَّا إذا قويتِ العصبيةُ , وعزَّتِ اللغةُ , وثارت لها الحميَّة , فلن تكونَ اللغاتُ الأجنبيةُ إلا خادمةً يُرتَفَقُ بها ( تأتي في المقام الثاني ) , ويرجِع شِبرُ الأجنبيِّ شبرًا لا مِترًا ..... وتكونُ تلكَ العصبيَّةُ للغةِ القوميَّةِ مادةً وعَونًا لكلِ ما هو قومي , فيُصبِحُ كل شئٍ أجنبي قد خضعَ لقوةٍ قاهرةٍ غالبة , هي قوةُ الإيمانِ بالمجدِ الوطنيّ واستقلالِ الوطن , ومتى تعيَّنَ الأولُ أنَّه الأول , فكلُ قُوي الوجودِ لا تجعلُ الذي بعدَه شيئًا إلا أنَّه الثاني .