الأحد، 14 نوفمبر 2010

إليكما أبعث بكلماتي .........

أحمد وعبدالله
  
لقد طالَ عليَّ الليلُ حتَّى مَللتُه , ولكنَّني لا أسألُ اللهَ أنْ ينفرجَ لي سوادُه عن بياضِ

النَّهار , لأنَّ الفجيعةَ التي فُجِعْتَها بفقدِكُما لَمْ تُبقِ بين جنبي بقيةً أقوى بها على رؤيةِ أثرٍ

من آثارِ حياتِكما , فليتَ الليل باقٍ حتَّى أرى وجهَ النَّهار , بل ليتَ النَّهار يأتي , فقد مللتُ

هذا الظلام.

لقد افتلذَ كلٌ مِنْكُما مِنْ كَبِدي فلذةً فأصبَحَتْ هذه الكَبِدُ الخَرقاءُ مُزَقاً مبعثرةً في

زوايا الأرض , ولمْ يبْق لي منها إلا قليلٌ من الدِّماء لا أحسَبُه باقياً على الدَّهر , ولا أحسبُ

الدَّهرَ تاركُه دونَ أنْ يذهبَ بِهِ كَمَا ذَهَبَ بأسلافِه.

لماذا ذَهبْتُما بعدَ ما جِئْتُما ؟ ولماذا جِئْتُما إِنْ كُنتُما تعلمانِ أنَّكُما لا تُقيمان ؟

لولا مجيئكما ما أسِفْتُ خُلوَّ يدِي مِنكُما , لأنني ما تعودتُّ أن تمتَدَّ عَينيّ إلى ما ليس في

 يَدِي , ولو أنَّكُما بَقِيتُما بعدَ ما جِئتُما ما تَجرَّعتُ هذه الكأسَ المريرةَ في سبيلِكُما.

لقد كنتُ أرضى من الدهرِ في أمرِكما أن يتزحزحَ لي عن طريقي التي أسيرُ فيها , وأن

يَزوِي وجهَه عنّي فلا أراه ولا يراني , ولا يُحسنُ إلىَّ ولا يسئ ولا يتقدَّمُ إليَّ بخيرٍ ولا

شَرّ , ولا يتراءى لي مبتسمًا , ولا مقطباً , ولا ضاحكاً , ولا باكياً , لو أنَّه رَضِيَ مِنِّي

بذلك , ولكِنَّه كانَ أذكى قلباً , وانفذَ صَبرًا , من أن يفوتَه العلمُ بأَنَّني ما كنتُ أبكي على

النِّعمةِ لو لم تكُن في يدِي , وما كنتُ أجدُ مرارةَ فقدانِها لو لم أذُق حلاوةَ وُجدانِها , وكان لا

بدَّ له أن يجري في سنَّةِ الشقاء التي أخذَ على نفسِه أن يجريَها في الناس جميعاً , فلمَّا عَجَزَ

عن أن يدخُلَ إلىَّ من بابِ الطَمَع , دَخَلَ إلىَّ من بابِ الأمَل , فهوَ يمنحُني المِنحةَ فأغتبطُ

بها حِقبةً من الدَّهر , حتى إذا عَلِمَ أنَّ بِذرةَ الأمَلِ التي غَرَسَهَا قد نَمَتْ وازْدَهَرَتْ وأنَّني قَدِ

استَعذَبْتُ طَعْمَهَا واستطبتُ مَذَاقَهَا , كَرَّ عَلَىَّ فانتزَعَهَا مِن يدِي وقد كُنتُ

أنعمَ ما أكونُ بِهَا , كَمَا تَنْزِعُ الكَأسَ البارِدَةَ من يدِ الظامئ الهَيْمَان , لَيَعْظَمَ وَقْعُ السَّهْمِ فِي

كَبِدِي , وَيَفدَحَ سَلبُ النِّعْمَةِ مِن يَدِي , ولولا ذلكَ ما نالَ مِنِّي مَنَالا , ولا وجَدَ إلىَّ سَبِيلا .

إنْ قُدِّرَ لَكُمَا أن تُفارِقا هذه الدنيا و تَتَلاقَيا في روضةٍ من رياضٍ الجَنَّة , أو على شَاطِئِ 

غَدِيرٍ مِن غِدرانِها , أو تحتَ ظِلالِ قَصرٍ مِن قُصورِها فاذكُراني كَمَا أذكُرُكُما , وقِفَا بينَ

يَدَي رَبِّكُمَا صَفَّاً واحِدًا كَمَا يَقِفُ بينَ يديه المصلون ومُدَّا إليه أكفَّكُمَا الصغيرةَ كَمَا يَمُدُّها

السائلون , وقولا له :

اللهم إنَّك تَعلمُ أنَّ هذا  الرجلَ المِسكِين كانَ يُحِبُنا وكُنَّا نُحِبُه , وَقد فَرَّقَتْ الأيامُ بينَنَا وبينَه ,

 فهوَ لا يزالُ يلاقِي مِن بَعدِنَا شَقَاءَ الحياةِ وبأسائِها ما لا طاقةَ لَه باحتِمَالِه , ولا نزالُ نَجِدُ

بينَ جوانِحِنا مِن الوَجدِ بِه , والحنينِ إليه , ما يُنَغِّصُ علينا هناءَ هذه النِّعمَةِ التي نَنْعَمُ بِهَا

فِي جِوارِك بينَ سَمْعِكَ وبَصَرِك , وأنتَ أرحمُ بِنَا وبِه مِن أن تُعذِّبَنَا عذاباً كثيرًا , فإمَّا أن

تأخذَنَا إليه أو تأتيَ بِه إلينَا .... لا , بَل لا تطلبا مِنه إلا أن يأتِيَ بي إليكُمَا .فإنَّ الحياةَ التِي

كَرِهْتُها لِنَفْسِي لا أرضاها لَكُمَا , فَعَسَى أن يستجيبَ اللهُ من دعائِكُما ما لم يستجبْ مِن

دُعائِي فيرفَعَ هذا الستارَ بيني وبينكُمَا فنلتقِي كَمَا كُنَّا .



 من نظرات المنفلوطي رحمه الله ( 1876 - 1924 ) بتصرف هين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق