كلامه في الشعر
إنَّ مِنْ جميلِ ما يُقرأ للبارودي رحمَه الله ما قاله في مقدمةِ ديوانِه عَن الشِّعر ....
قالَ رَحِمَه الله تعالى بعدَ أن حَمدَ اللهَ وأثني عليه :
وبعدُ..... فإنَّ الشِّعرَ لُمْعَةٌ خَياليةٌ يتألقُ وَميضُها في سَماوَةِ الفِكر , فتنبعثُ أشِعَّتُها إلى
صحيفةِ القلب , فيفيضُ بلألائهَا نورًا يَتَّصِلُ خَيطُه بأسَلَةِ اللسان ( بطرف اللسان ) ,
فينفثُ بألوانٍ مِنَ الحِكمَةِ ينبلجُ بِهَا الحَالِكُ ( أي يضاء بها السواد الشديد ) ,ويَهتدِي
بدليلِهَا السالِك , وخيرُ الكلامِ ما ائتَلَفَتْ ألفاظُه , وائتَلَفَتْ معانيه , وكانَ قريبَ المأخَذِ ,
بعيدَ المرمى , سليماً مِن وَصْمَةِ التَّكلُّف , بريئاً مِن عَشْوَةِ التَّعَسُّف , غنيَّاً عَن مُراجَعَةِ
الفِكرَة , فهذه صفةُ الشِّعرِ الجَيِّد , فَمَن آتاه اللهُ منه حَظَّاً , وكانَ كريمَ الشَّمَائِل , طاهرَ
النَّفس , فقد ملكَ أعِنَّةَ القُلوب , ونال مودَّةَ النُّفوس , وصارَ بينَ قومِه كالغُرَّةِ في الجوادِ
الأدْهَم ( كالشَّعرِ الأبيضِ في ناصيةِ الخيلِ شديدِ السواد ) , والبدرِ في الظلام الأيْهَم
( الذي لا يهتدي مَن يسيرُ فيه ) , ولو لَمْ يَكُن مِن حَسَنَاتِ الشِّعر الحَكِيم إلا تهذيبُ
النُّفوس وتدريبُ الأفهام , وتنبيهُ الخَواطِر إلى مكارمِ الأخلاق , لكان قد بلغَ الغايةَ التي
ليسَ وراءَها لِذِي رغبةٍ مسرحٌ, وارتَبَأَ ( علا ) الصَّهوةَ التي ليسَ دونَهَا لِذِي هِمَّةٍ مَطمَح
, ومِن عَجَائِبِه تنافُسُ النَّاسِ فِيه , وتَغَايُرُ الطِّباعِ عَليه , وصغوُ الأسمَاعِ إليه , كأنَّمَا
هو مخلوقٌ من كلِّ نفس , أو مطبوعٌ في كلِّ قَلب , فإنَّك تَرى الأممَ على اختلافِ ألسنَتِهِم
, وتباينِ أخلاقِهم , وتعددِ مشاربِهِم , لَهِحِينَ بِه, عاكِفينَ عليه , لا يخلو مِنه جِيلٌ دُونَ
جِيل , ولا يَختصُّ بِه قَبيلٌ دُونَ قَبيل , ولا غَروَ , فإنَّه مَعرِضُ الصِّفات , ومَتجَرُ
الكمالات , ولقد سَمِعَ عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قولَ زُهيرٍ بنِ أبي سُلمى :
فإنَّ الحقَّ مقطَعُهُ ثلاثٌ يمينٌ أو نِفَارٌ أو جَلاءُ
فَجَعَلَ يَعجَبُ من معرفتِه بمقاطعِ الحِكمَةِ وتفصيلِها .
وللشِّعرِ رُتبةٌ لا يجهَلُهَا إلا من جفا طبعُه , ونبا عن قَبولِ الحِكمَةِ سمعُه , فهو حليةٌ
يزدانُ بجمَالِهَا العاطِل , وعُوذَةُ ( ملاذ ) لا يتطرقُ إليهَا الباطِل .
محمود سامي البارودي رحمه الله ( 1838- 1903)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق