الثلاثاء، 16 نوفمبر 2010

مع البارودي رحمه الله 1 ......




كلامه في الشعر


إنَّ مِنْ جميلِ ما يُقرأ للبارودي رحمَه الله ما قاله في مقدمةِ ديوانِه عَن الشِّعر ....

قالَ رَحِمَه الله تعالى بعدَ أن حَمدَ اللهَ وأثني عليه :

وبعدُ..... فإنَّ الشِّعرَ لُمْعَةٌ خَياليةٌ يتألقُ وَميضُها في سَماوَةِ الفِكر , فتنبعثُ أشِعَّتُها إلى 

صحيفةِ القلب , فيفيضُ بلألائهَا نورًا يَتَّصِلُ خَيطُه بأسَلَةِ اللسان ( بطرف اللسان )  ,

فينفثُ بألوانٍ مِنَ الحِكمَةِ ينبلجُ بِهَا الحَالِكُ ( أي يضاء بها السواد الشديد ) ,ويَهتدِي 

بدليلِهَا السالِك , وخيرُ الكلامِ ما ائتَلَفَتْ ألفاظُه , وائتَلَفَتْ معانيه , وكانَ قريبَ المأخَذِ , 

بعيدَ المرمى , سليماً مِن وَصْمَةِ التَّكلُّف , بريئاً مِن عَشْوَةِ التَّعَسُّف , غنيَّاً عَن مُراجَعَةِ 

الفِكرَة , فهذه صفةُ الشِّعرِ الجَيِّد , فَمَن آتاه اللهُ منه حَظَّاً , وكانَ كريمَ الشَّمَائِل , طاهرَ 

النَّفس , فقد ملكَ أعِنَّةَ القُلوب , ونال مودَّةَ النُّفوس , وصارَ بينَ قومِه كالغُرَّةِ في الجوادِ 

الأدْهَم ( كالشَّعرِ الأبيضِ في ناصيةِ الخيلِ شديدِ السواد ) , والبدرِ في الظلام الأيْهَم

( الذي لا يهتدي مَن يسيرُ فيه ) , ولو لَمْ يَكُن مِن حَسَنَاتِ الشِّعر الحَكِيم إلا تهذيبُ 

النُّفوس وتدريبُ الأفهام , وتنبيهُ الخَواطِر إلى مكارمِ الأخلاق , لكان قد بلغَ الغايةَ التي

ليسَ وراءَها لِذِي رغبةٍ مسرحٌ, وارتَبَأَ ( علا ) الصَّهوةَ التي ليسَ دونَهَا لِذِي هِمَّةٍ مَطمَح

, ومِن عَجَائِبِه تنافُسُ النَّاسِ فِيه , وتَغَايُرُ الطِّباعِ عَليه , وصغوُ الأسمَاعِ إليه , كأنَّمَا

هو مخلوقٌ من كلِّ نفس , أو مطبوعٌ في كلِّ قَلب , فإنَّك تَرى الأممَ على اختلافِ ألسنَتِهِم

, وتباينِ أخلاقِهم , وتعددِ مشاربِهِم , لَهِحِينَ بِه, عاكِفينَ عليه , لا يخلو مِنه جِيلٌ دُونَ

جِيل , ولا يَختصُّ بِه قَبيلٌ دُونَ قَبيل , ولا غَروَ , فإنَّه مَعرِضُ الصِّفات , ومَتجَرُ 

الكمالات , ولقد سَمِعَ عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قولَ زُهيرٍ بنِ أبي سُلمى :

فإنَّ الحقَّ مقطَعُهُ ثلاثٌ    يمينٌ أو نِفَارٌ أو جَلاءُ

فَجَعَلَ يَعجَبُ من معرفتِه بمقاطعِ الحِكمَةِ وتفصيلِها .

وللشِّعرِ رُتبةٌ لا يجهَلُهَا إلا من جفا طبعُه , ونبا عن قَبولِ الحِكمَةِ سمعُه , فهو حليةٌ 

يزدانُ بجمَالِهَا العاطِل , وعُوذَةُ ( ملاذ ) لا يتطرقُ إليهَا الباطِل .

محمود سامي البارودي رحمه الله  ( 1838- 1903) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق