كيف تكون أديبا
أول ماتجب معرفته لكل طالب أدب , أن لكل علم ألة , ولكل ألة نظاما , ولكل نظام مبدأ , ولكل مبدأ أصولا , فإذا فسد الأصل فسد معه المبدأ والنظام وتوقفت الألة حتى يعلوها الصدأ , وإذا وقع بعض الاختلال في بعض الأصول أفضى هذا الاختلال إلى الألة فجعلها تدور متعسرة ضالة يتكسر سن منها على سن حتى ينتهي بها ذلك إلى الفساد عامة بعد الجعجعة والضوضاء والصخب الذي هو كل إنتاجها . فليس ثمة علم من العلوم أو فن من الفنون إلا وقد استأثر بأصول مؤسسة , لابد لكل راغب – في شيئ من هذه العلوم والفنون – أن يستوعبها ويجيدها ويحسن التصرف فيها إذا عالجها حتى لا يتوقف به العجز بعد الدخول في بحبوحة هذا العلم أو الفن , إذا فجأه ما يفجأ مما لابد منه ولا محيص عنه .
فطالب الهندسة مثلا إذا لم يعرف أصولها من النقطة والخط والزاوية القائمة والحادة والمنفرجة , والأشكال المختلفة بين الربيع والتثليث والتدوير , وما يتبع كل ذلك من البرهان على صحة الأحكام التي تقتضيها هذه الأشكال الهندسية , فهو خليق إذن أن لا يجيد شيئا من الهندسة مهما طال مراسه لها , وتتبعه لكتبها الكبيرة التي لا تلم بشرح الأصول الإبتدائيه .
فإذا خيل لهذا الطالب – بعد طول العمر في دراسة الكتب الكبيرة – أنه مستطيع أن يشرح النظام الفلكي بالحساب الهندسي , أو أن يبني دارا بما تلقف من ألوان هذا العلم , وقع من حيث طار مرة , أو انهدم عليه ما أقامه مرة أخرى , وهكذا أمر كل العلوم والفنون لا يشذ واحد منها عن القاعدة التي تقررها فطرة العلوم والفنون .
والأدب والشعر والفلسفة وسائر العلوم النفسية والعقلية التي يخيل لبعض الناس إنها ملك للجميع من كل صاحب عقل وصاحب نفس لا تخرج عن هذه القاعدة التي تطالبنا بتقريرها فطرة العلوم والفنون . فأيما أديب أو كاتب أو شاعر أو ناقد أو متفلسف يقتحم بابا من هذه الأبواب غير متسلح بالبراعة في أصول الفن الذي يرمي بنفسه فيه , فهو إلى إهلاك نفسه أدخل , وإلى إضاعة وقته أسرع , وبالغرو سار حيث سار , وإني قد رأيت أكثر من يقذف نفسه في فن من هذه الفنون يقول : إذا كان مرد الشعر والأدب والكتابة والنقد وما إليها هو إلى الطبع والسليقة وصفاء النفس ورقة الشعور , فما جدوى أن نقيم الدنيا ونقعدها من أجل أشياء لا تنفع ولا تشفع ؟ وأي فائدة – بعد أن يجتمع للأديب والشاعر هذا كله – في أن يرهق نفسه بالدراية والثقافة والبحث والدأب , ولعله إذا أقبل على هذه الأشياء بالدرس والتثقيف كان ذلك أسرع في إفساد طبعه , ومجمجة سليقته , ومحق شعوره . ولقد أخطأ هؤلاء من حيث أرادوا الإصابة في التقدير .
فإن أصل العلم كله من أدب وفن وعلم إنما هو النفس والطبع والشعور , ولولا هذه لما كان في الدنيا علم , ولكن النفس لا تكتفي بأن تكون كل أعمالها صادرة عنها وحدها , بل إن الاجتماع الإنساني يضطرها أن تكون أبدا متأهبة للتلقي كما هي مريدة للإذاعة , وأن تكون راغبة في مشاركة الآخرين في تأملاتهم كما هي متشوقة للانفراد بتأملها . وهذا يدل على أن النفس إذا انفردت لم تؤد أعمالها إلا ناقصة معيبة , لأن تمام أعمالها في المشاركة .
من مقال بعنوان ( الطريق إلى الأدب ) من جمهرة مقالات ( أبي فهر ) رحمه الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق