يبدو أن الحال ليس كما ينبغي , ها نحن في الموسم ولا أحد يرغب في قضاء ليلة معك أيتهاالتعيسة , لا أدري هل مرتادي هذه الخمارات من أصحاب المزاج العالي قد تبدل الحال بهم, وتغير مزاجهم , أم العيب فيك أنت لا فيهم , كم طلبت منك كثيرا أن تعودي للإعتناءبنفسك كسابق عهدك , فالإيراد كما لا يخفى عليك قد اقترب من العدم
كذلك حالك أيها القواد اللعين , لم تتغير قط , منذ أكثر من ثلاثين عاما تزوجتني , لتأكل من بيع جسدي وأنت لا يرضيك أبدا أي شيئ , ما عساي أن أفعل أكثر من ذلك , أتستطيع أن توقف عجلة الزمن , الزمن يا زوجي العزيز لا يقبل الرشاوي ولا تنطبق عليه قوانين الفساد التي اخترعتها
يالها من مسكينة قد نحل جسدها , وأصبحت ( كالبلياتشو ) من فرط ما تعانيه من عبء( الماكياج ) الذي تلطخ به وجهها , مسكينة حقا تلك المرأة , ماذا عساها أن تفعل وقد تزوجها هذا القواد منذ ما يربو على ثلاثين عاما , قد انتشلها من خزي العار – كما أوهمها وقتها – أو كما تقول قوانين الشرف والتي كان ملتزما بها أيما التزام , فلقد تزوجها وهي تحمل من سفاح , بعد ما تعودت على الإستسلام لفتيان الطريق , ثم اكتشفت بعد ذلك بقليل أنه لم يتزوجها بل كان يعقد صفقة مربحة , فهي بالنسبة له أصبحت مصدرا للدخل لا يريد أن يشاركه فيها أحد , قد استعملها في اجتذاب هؤلاء الرعاع ممن لا هم لهم إلا أن يلبوا نداء شهواتهم اللعينة , غير عابئين بأي دين أو عرف أو دستور , فهذا الرجل اللعين لديه دستوره الخاص في حانته
كان ذلك القواد بعد تلك السنوات الطويلة قد أنهكه كثرة ما أكل من لحم جسد تلك المرأة المسكينة , أصبح لا يقوى على الحركة من فرط التخمة التي أصيب بها , وهو في ذلك لا يرحمها بل يشتد في طلبه لها لتبيع جسدها الذي اقترب على الاختفاء , فلا يعد يبقي من شعرها الجميل إلا بقايا من لون أبيض
منذ أن أخذ إيراد حانة ذلك القواد في الإنهيار , حتى أصابه الفزع والهلع , بالرغم من أنه مشرف على الموت – ولعله مات ولا أحد يعرف – بالرغم من ذلك , فهو لا ينتهي عن تقريع تلك المرأة المسكينة التي قد أكرهها على البغاء........
أخذ يفكر.........
كيف أستطيع أن أرتفع بالإيراد ؟ فهذه المرأة الداعرة قد أصبحت شبه ميتة , وها هي تأخذ في الصراخ كل يوم حتى أطلقها , فهي بزعمها تريد أن تموت علي ماتبقى لها من جسد , وهي محتفظة بقلبها الذي تزعم هي أنه ما زال ينبض بالحياة
أووووووووووه.................ماذا أفعل ؟ خاصة وأنا قد أكلني المرض وليس لي في الدنيا إلا ذلك الولد المعتوه ؟ وقد قاربت على الموت ........من لهذه الحانة بعدي ؟
لا لا .......تلك فكرة سيئة , فهذا الولد ليس ولدها ولكنه ابني أنا من زوجتي السابقة
أتراه يستطيع أن يقنعها وأن يعيدها من عالم الأموات , وهو علي تلك الحالة من البلاهة والعته ؟
الحيرة تأكلني..... لست أدري..... ماذا أصنع ؟
أيها اللعين ....... أنا أعرف ما يدور في أعماق نفسك . لن أدعك تورث بقاياي لولدك هذا المعتوه....... لا أبدا لن يكون فأنا وإن قاربت علي الرحيل أريد أن ألقي ربي تائبة إليه ..... عسى أن يرحمني ..... فأنا على الرغم من أنك استطعت أن تحيلني إلي داعرة خبيثة ....... إلا أن قلبي لا يزال ينبض بالإيمان
قالت ذلك الكلام وهي مجمعة بتلابيب بدلته التي اعتاد ان يستقبل زبائنه بها فما كان منه إلا أن أخذها وهي في قمة ثورتها وقيدها من يديها ورجليها , حتى إنها لا تستطيع الحراك إلا حبوا .............وأخذ يمني النفس قائلا :
حسنا صنعت أنا ........ دعها كذلك مقيدة وعندما يطلبها الزبائن سأقوم بحل وثاقها فالمفتاح في جيبي .....
جلست حزينة في ركن في تلك الحانة التي يعلوها سباب المخمورين وضجيجهم وسكرهم إلا أن أحدا منهم لا يلتفت إليها من شدة قبحها , جلست حزينة وهي تبكي , تذكرت الأيام الخوالي , عندما كانت شابة جميلة قبل أن تتعرف بأول نذل أسلمت له نفسها , كيف كانت مرحة , كيف كانت مقبلة علي الحياة , كانت لا تخشى أي شيئ حتي الموت , في سبيل أن تصدع بالحق , وأن تنعم بالحرية , والعدل
وهي في أوج تلك الذكريات إذ بهذا الإبن المأفون المعتوه القبيح الوجه يدخل الحانة تفوح منه رائحة السكر وهو يصيح هازئا وبالكاد تفهم كلماته :
ها أنا قد جئت أيتها اللعينة الشمطاء , كيف تجرأين على البطالة , تريدين أن تتوبي , ويحك أبعد كل هذا التاريخ العظيم المسطر بحروف من نور تريدين أن تتقاعدي ؟
ثم توجه إلى أبيه وأسر له ببعض القول :
أبتاه ...... أنت تعلم حتما أن الأعمار بيد الله , فأنت ربيتي منذ كنت صغيرا على الإيمان بالقضاء والقدر وسلطان الموت
ونظر إلى أبيه نظرة ماكرة ومن ثم أكمل حديثه
نعم فأنت ربيتني على ذلك منذ نعومة أظفاري..........
كنت أراك بعيني هاتين تقتل من يقفون أمامك محاولين أن يقتحموا حانتك هذه , و يستولون على إيراد اليوم , أتذكرك ويداك تقطر منهما دماء أخر ضحاياك وأنت تقول :
يا ولدي هذا هو القدر , ولولا أنه كان مخبولا ما استحق تلك النهاية , كيف يجروء على هذه المحاولة غير المحسوبة ؟
أفهمت يا أبتي ما ذا أبغي ؟؟؟؟
لكن يا ولدي الجميل أنا حقا أشرف على الموت ولكن مازلت أتنفس , وما يزال صوتي جديرا باجتزاب بعض الزبائن حتى لو كان الإيراد يأخذ في الإضمحلال ....
انزع عنك هذا الوسواس فمازلت قادرا على القيام بأمر زوجتي
يا أبتي ........ تنازل لي وسوف أريك .... سوف أحيل تلك المرأة العجوز إلي ألهة من ألهة الجمال ... سوف ترى صنيعي بها وبالحانة
أطلق يدي..... وإن أنا فشلت في صنيعي هذا فلم يعد أمامنا إلا الخطة البديلة ...........
سوف نتخلص منها للأبد ونقطع جسدها...... أنا أعرف تاجرا من هؤلاء التجار من أصحاب القبعات المستديرة السوداء , والشعر الطويل المنسدل , واللحية المضفرة ...
حتما تعرفهم فأنت يا أبي من عرفتني على هؤلاء التجار, وعلمتني كيف أتعامل معهم منذ كنت طفلا
كنت أراك تصحبهم معك في رحلاتك الخارجية وتزورهم في بيوتهم وهم كانوا أيضا يزوروننا دائما ......
لا أخفيك سرا يا أبي فقد تعرفت على أحدهم ذات مرة وأقنعته أن جسد تلك المرأة جسد تملؤه البركة ........
أقنعته أن جسد زوجتك هذه المسكينة سيدر عليه ملاييين (الشيكيلات) بمجرد أن يضع في كل ركن من أركان بيته الكئيب جزءا من ذلك الجسد المبارك
ابن أبيك ..... ويحك فلقد غلب شيطانك شيطاني ..أحقا يا ولدي ..... ؟؟ إذا فغدا ننظر في ذلك الامر ... نعم غدا..... غدا سأذهب أنا وأنت وسأكتب لك الحانة باسمك بيعا وشراءً
ولكن لا تخبر أحدا من عمال الحانة ولا أي بشر ......
سمعتهما المرأة المسكينة المتهالكة وهما يسران بهذا الحديث فما لبثت أن صاحت بهذا القواد وهي ترثف في قيودها :
لا أرجوك إن كان قد قدر عليك الموت فلا تسلمني لهذا المعتوه ..... أتوسل إليك ....
أريد أن أموت طاهرة عفيفة.... أتريد أن تبيع جسدي ميتة بعت أن نهشت فيه وأنا حية ؟
وما من ذلك القواد إلا وقد صفعها حتى غرق وجهها الشاحب في دمائه وأخذت تبكي وتنتحب .......وأخذت تسائل نفسها ......
ماذا سيحدث إن أنا أغفلت ذلك القواد وابنه هذا المعتوه وحاولت الهرب وهما غارقان ليلا في سكرهما ؟
أنا لم أخرج من ذلك المكان الكئيب منذ تزوجت من ذلك الرجل , أو بالأحرى منذ أن بعت له جسدي , فأنا يقتلني الشوق لأرى ضوء النهار ..... أريد أن أشم عبير الزهور ......
أريد أن أتنقس هواءً طاهرا وأنا في أخر أيامي .....
وما إن طلع الفجر وقد استحال لون السماء إلي اللون الأحمر من أثر أول أنفاس الشفق مؤذنا بطلوع الصبح , فإذا بالمرأة المسكينة تحبو متجهة إلي باب الحانة وقد تركوه مفتوحا شيئا ما, و ما إن وصلت إلى منتصف الطريق أمام الحانة , وقد أعياها الحبو وأدمى جسدها النحيل
إذ بشاب تعلوه الهيبة وتبدو عليه أمارات الصلاح, كان يبدو عليه أنه عاد توا من صلاة الفجر وما إن رأها , حتى اقترب منها وانحنى لها , مشفقا عليها وقد روعه ذلك المنظر ...
أخذ يمسح عن جبينها ما كان قد علق به من قاذورات الطريق قائلا لها :
مابك يا أماه ؟؟؟؟ ألهذا الحد قد فعل بك ذلك القواد اللعين ؟؟؟؟
نظرت إليه متسائلة كيف له أن يعرف من خبر زوجها ؟
أتعرفني يا ولدي ؟؟
بالطبع أعرفك منذ أن كنت في ريعان شبابك فأبي قد قص لي قصتك الحزينة ؟ و قد كنت هذه الأيام أراقب هذا القواد ماذا عساه أن يفعل بك ؟
ولماذا يا ولدي لم تجرؤ على الإقتراب من تلك الحانة , وأن تفك أسري وتحررني من ذلك العجوز الأخرق ؟؟؟
معذرة يا أماه ....سامحيني.......
ليس عندي ما أقوله لك إلا إنني ليس لي أحد بعد موت أبي إلا أقوام مستضعفون يعيشون فقط على الفتات, قد أعياهم البحث أياما عن ذلك الفتات
ليس لهم من الدنيا نصيب , إلا إنهم مازالوا أحياء يعيشون
و على الرغم من كثرتهم فإنهم كزخات المطر المتهاطل على جبل أملس , لا تنبت كلأً ولا يحتفظ بها ذلك الجبل بين أحضانه تحسبا لوقت الجفاف
هم كثيرون ...
ولكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيئ وإن هانا
أخذت ترمقه بنظرات تملؤها الحسرة والحزن , وتهمس على وقع أنفاسها المتسارعة المخنوقة, وكأنها تجود بأخر تلك الأنفاس
إليك وصيتي يا ولدي .........
يا ولدي قد اتفقا علي , هذا القواد اللعين يريد أن يسلمني لولده المعتوه , يريد أن يملكني حيةومقبورة , ها هما في طريقهما , فهذا الفاجر يريد أن يتنازل لابنه عن الحانة وقد سمعتهما بالأمس يتهامسان , وقد اتفقا علي بيع جسدي لذلك التاجر المرابي المشهور, بعدما أقنعه هذا الولد الخبيث أن جسدي بعد الموت سيدر عليه البركات وسيغرقه في ملايين الشيكيلات .
يا ولدي أسرع قبل أن ألفظ أنفاسي ......
الحق بهذا المعتوه ........فأنا أعرفه جيدا ... بعد أن يتنازل له أبوه ... سرعان ما سيقتله حتى ينفذ خطته معي .....
الحق به أرجوك ....... فأنا إن قدر لي الموت أريد أن أموت تائبة ..... وأن يرقد جسدي ساكنا في قبره ... لا أريد أن يتقطع جسدي أشلاءً عند ذلك المرابي ....
أسرع أرجوك وضع حدا لهذه المهزلة ..... فليس ذلك الإبن المعتوه بأعقل من أبيه الذي أكل جسدي ......
أنا أريد أن أكون شريفة في قبري فأنا لم أذق طعم الشرف منذ زمن بعيد
أسرع يا ولدي...........
ياولدي من لم يكن يدري أني أموتُ فقد وَهِمْ
فالحقيقة يا ولدي أني أموتُ منذ قُرون
منذ تاريخِ الملوكِ الضاربِ في القِدَمْ
منذ تاريخِ سفاحٍ وعصرِ مأمونٍ ومعتصِمْ
وما إن قتل زوجيَ الأولُ أخرَهؤلاءِ الملوك
بعدها ساد الخرابُ يا ولدي في جسدي وَعَمّ
أخذ يُعَطِّرُني ويجملُ صورتي أمامَ رُفَقَائِه
حتى حَمَلْتُ سِفاحاً من أولِ ليلةٍ قضيتُها في بيتِه
قد نَزَفْتُ حِينَها يا ولدي من كلِ قيحٍ و صديدٍ وَدَمّ
قد قتلوه وباعني رُفقَاؤُه لتلك الزمرةِ من الخدَمْ
منهم كان زوجيَ الثاني وهذا القوادُ الأخير
هذا الرجل يريد أن يُسْلِمَ جسدي لابنه
يا ولدي لا تَتْرُكْنِي لهذا القبيحِ المعتوه
فقد عَلَقَ الترابُ بهامتي كما ترى يا ولدي
بعدما كنتُ أعلى من الجبلِ الأشَمّ
لم يكن حالُ قومي وقتَ عُذريتي كاليوم
كانوا مُلتفِّينَ حولي كالرجلِ الواحد
لم يبقَ منهم يا ولدي إلا المواكبُ والموائدُ والقِمَمْ
أرجوك ان تحفظَ في صَدرِكَ وصيتي
انصت إليَّ يا ولدي ولا تكنْ كهؤلاءِ الرِمَمْ
فلم يعد لي غيرُكَ بعدما أكلهم الصَمَمْ
مَن استرعى الذئبَ يومًا... يا ولدي فقد ظَلَمْ