الأربعاء، 13 يوليو 2011

علي و Einy واللقاء الأخير

الحلقة الرابعة

صخبٌ وجلبة , هواءٌ ملوث , صياح , صراخ , سبابٌ من سائقي سيارات الأجرة , صوتٌ مزعجٌ ومتداخلٌ من منبهات الشاحنات , زحامٌ شديدٌ جدا

هذا هو حال أحد الميادين الشهيرة في قلب العاصمة المصرية ( القاهرة )
هكذا قرر ( علي ) وبدون أي مقدمات أن يكسر عزلته شيئاً ما

خرج من حجرته , تقوده قدماه إلى وجهةٍ معينة , لم ينتبه إلا و قد وصل إلى ذلك الميدان
 
أخذ يتفحص في وجوه الناس , نفس الوجوه , نفس الإنزعاج والقلق والتجهم
 
سارحاً واجماً أخذ يأكل الأرض بقدميه , تعثر كثيرًا بالمارَّة , بل هم من تعثروا واصطدموا به في الواقع

لكنه وفي كل مرةٍ يصطدم به شخصٌ يتوجه إليه بالإعتذار مبتسماً وقائلاً :

آسف  

فينظر إليه ذلك الشخص من أعلى إلى أسفل ثم العكس , وينصرف

 فيندهش ( علي ) ... لماذا ؟ ما بال الناس ؟

هل حدث تغيرٌ جِذريّ في أحوال الناس أثناء الفترة التي قضاها وحيدًا منعزلاً في حجرته جعلهم يتصرفون بهذا الشكل

الغريب أنك تجد في هذا الميدان المزعج البائس حديقة في وسطه
أجل ...  حديقة ولكن ليست كسائر الحدائق , لم يكن يكسوها اللون الأخضر , بل سوداء , هل سوداء بسبب عوادم السيارات ؟ أم بسبب سواد قلوب من يقودون تلك السيارات ؟  لا تدري

إلا أن المؤكد أنها حديقة يكسو حشائشَها وأشجارَها بل وأزهارَها اللونُ الأسود

جلس ( على ) على أحد المقاعد الموجودة في الحديقة , وأخذ يقول في نفسه :

- لماذا يصطدم  الناس بي على هذا الوجه , هل هم متعمِّدون ؟! هل هم مختلفون عني ؟ أم أنا المختلف عنهم ؟

ولكن إذا كانوا هم المختلفون المتميزون عني جميعًا لماذا يتعمدون الإصطدام بي على هذا النحو ؟!

هل يبدو على ملامحي أنني شخصٌ غريبُ الأطوار ؟ مجنون ؟

يبدو أن شيئاً غريباً قد حدث

ثم قرر أن ينهضَ ويستمِرَّ في السير

فاجأة وجد نفسه أمام شباك التذاكر قائلاً للموظف المسؤول :

- تذكرة إسكندرية من فضلك
- 37 جنيه
- ليه ؟ هي الأسعار زادت ؟
- 35 جنيه ثمن التذكرة , و 2 جنيه تبرع للهلال الأحمر  
- هو فيه تبرع إجباري ؟
- إذا كان عاجبك , خلصني , ورانا شغل
- انزعج علي من ردة فعل الرجل , واستسلم وقام بدفع الملبغ المطلوب

منذ آخر زيارة زار فيها الطبيب والوقت يمر على ( علي ) بسرعة رهيبة على غير عادته 

لقد أدمن النظر إلى عقارب الساعة , حتى أنه ظل ينظر إلى ساعة يده أثناء الطريق
إلى أن وصل القطار إلى المحطة النهائية

- السلام عليكم
- عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
- فين يا شيخنا ؟ , سأل سائق التاكسي ( علي )

كان هذا السائق شاباً يبدو عليه مظاهر الإلتزام الديني , لحية , وشريط (كاسيت) لخطبة مسجلة لأحد الدعاة

- أي حتة , أقولك , وديني البحر

- ماشي , بقولك يا مولانا .. إيه رأيك في اللي بيحصل في البلد ؟
البلد هاتتغير ولا هانفضل كدة ؟
أنا عايز أعرف إحنا مفروض نعمل إيه ؟

- نظر إليه ( علي )  , وبعد لحظاتٍ من الصمت , أجابه بتلك العبارات التي وجدها السائق غامضةً وغريبةً بعض الشيء :

- مش عارف , بس أكيد لازم حاجة تحصل , الثبات شيء مستحيل , والتغيير سنة , والوقت مناسب جداً للتغيير , بس مين اللي هايغير وإيه هي نتيجة التغيير , الله أعلم 

اللي أنا متأكد منه إن التغيير هايبدأ من عندكم هنا

- نظر إليه السائق في المرآة , ثم قال في نفسه : من عندنا هنا ؟ يقصد إيه ؟

وبعد قليل , وصل ( علي ) إلى مكان ما على البحر اختاره له السائق

كان يوما من أيام الشتاء القارص , الرياح شديدة جداً ، الموج عالٍ , ماء البحر أغرق الطريق بالكامل , بل وملأ ماءه مداخل المنازل في الجهة الأخرى من الطريق

وقف ( علي ) أمام البحر مباشرة و الدخان يخرج من فمه كالسحابة من شدة البرد
ولكنه غير عابئ بأي شيء , بل لم يكن يرتدي ثياباً تتناسب مع هذه الظروف الجوية , وكأنه لم يكن يدري هل هو الصيف أم الشتاء

أخذ يتحدث بصوتٍ مسموعٍ بعض الشيء

- أيها البحر , لعله يكون آخر عهدي أنا بك , فالأطباء قد اجتمعوا على ذلك , وكبيرهم المغرور أكد ذلك

عقارب الساعة توشك أن تتوقف , وأنا أنظر إليها كل يوم , لا لأبطئ من سيرها لا , بل لأتعجل قدوم ملاكي الحصري , فهذا آخر آمالي من الدنيا

أنا لا أريد أن يغمض عيني إلا ملاكي , فأنت كما تعلم أيها البحر قد تحجرت جفوني

وأنا على يقينٍ أن عقارب الساعة ستتوقف وأنا على هذا الحال , وليس لي من الدنيا إلا ذلك الملاك

أعلم أيها البحر أنك تحدث نفسك وتقول :

ويحك أيها الرجل , أفي كلِّ عامٍ تأتي وأنت على هذا الحال ؟ تتحدث  إلي , تبكي ؟
وعندما أتوقف قليلاً لأسمعك , وأسمع قصتك تختلط دموعك بمائي !!

عجبًا لك أيها الإنسان , لقد تسببت في هلاك ما في جوفي من ثمين الدرر , يكفي هذا
 
أما ما يتعلق بملاكك الحصري هذا , فأنا لا أستطيع أن أفعل لك شيئا , فأنت في كل مرةٍ تفوضني أن أبعث برسالةٍ له كل عام , وفعلا , أستقبل رسالتك , ولكن يبدو أنه لا وجود لهذا الملاك على كوكبنا

وعن هذا اللقاء الأخير , أقول لك , على الرغم من أنك ترهقني وتزعجني كل عامٍ إلا أنني سوف أفتقدك

إليّ برسالتك الأخيرة , فلربما تلقى هذه الرسالة آذاناً مصغية , وقلباً حياً

بعدها أخرج ( علي )  من جيبه ورقةً يبدو أنها الرسالة الأخيرة وأحكم طيها ثم قذفها في البحر

كان الجو قد تحسن قليلا , هدأت الأمواج , وتوقفت الرياح , فقط ظلت بعض الأمطار تتساقط من السماء

كان ( على )  في حالةٍ يُرثى لها

فاجأة شعر بيدٍ صغيرةٍ تجذب طرف " البنطلون " السفلي من الخلف , وسمع صوتاً طفولياً عذباً

- عمو , السلام عليكم , خد

التفت ( علي )  إلى الخلف , فإذا بفتاةٍ صغيرةٍ جمالها أخاذ , تمد يديها إليه ( بشال ) , من الصوف كالذي ترتديه النساء في الشتاء

أخذه منها ووضعه على كتفيه وبعدها أخذ ينفث في كلتا يديه محاولاً أن يقاوم برودة الجو
ثم ابتسم لها قائلاً :

- اسمك إيه ؟

- عائثــة :)

مسح يده على شعرها ومازالت الإبتسامة تداعب شفتيه
وقال لها : good girl , قصدي ... جزاكم الله خيرا يا ( عائشة )

بعدها  اتجهت الفتاة مسرعةً إلى امرأةٍ كانت تقف في انتظارها  مراقبة المشهد من بعيد

امرأة لا يظهر منها أي شيء , تمسك بمظلة ( شمسية ) تضعها فوق رأسها , وعندما وقع نظر ( علي ) عليها , أشاحت ببصرها بعيدا وكذلك فعل ( علي )

أمسكت بيد الفتاة الصغيرة, وانصرفا سويًا

بعدها أوقف ( علي ) سيارة أجرة , طالباً من السائق أن يقوم بتوصيله إلى
( محطة مصر )

في أثناء الطريق , تذكر ( آيني ) , تذكر كلامه عن ذلك المصير الواحد , و تلميحاته بأن العمل سيبدأ قريباً , أخذ يتساءل كيف سيساعده ( آيني ) , وبماذا سيساعده هو ؟
وتذكر كلامه عن ( السيميائي ) وعندها ابتسم , لأن الرسالة الأخيرة التي ألقى بها إلى البحر , كانت الصفحة الأولى من رواية ( الجبل الخامس )

والتي كانت تتضمن جملة قالها الملك للراعي " سانتياجو " :

( عندما تريد شيئًا بصدق , فإن الكون كله سيشاركك ويساعدك على إنجازه )

هل تكون الرسالة الموجودة في البدايات , نقطة انطلاق نحو نهاية سعيدة ومن ثم بداية جديدة ؟

هكذا تساءل

ثم أخذ يحدث نفسه :

هل سيأتي اليوم الذي تتوقف فيه الأحداث مع صديقه ( آيني ) دون أن يقرأ هذه العبارة

To be continued

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق